فقد تعاملت "النور" مع الوالغين في الأعراض بألسنتهم بحجج عقلية ونداءٍ ايماني وصرامة شديدة في الوصف والجزاء والشرط، حتى إنه يتخايل لك حيناً أن تهديدها للألسنة الوالغة أشدُّ مما هددت به الفروج الزانية، (فالفرج) جريمته مع بشاعتها هي واحدة، فإذا تناقلتها (الألسنة) صارت ثقافة شائعة فانتُهكت آلافُ الفروج المحرمة.
ومن البدهي أن ليس للإشاعات نمط واحد لا تتجاوزه، بل يدخل فيها شائعات البريد الإلكتروني ومنتديات الإنترنت ومواقع اليوتيوب والفيسبوك والتشات والدردشة ورسائل الجوال والماسنجر عن فلانة وفلان، ونلحظ أن بعضهم إذا اختلف مع رجل أو امرأة في عقيدة أو فكر أو منهج ونحوها استباح من مخالفه كل عرض، وظن أن هذه المخالفة تسوغله بهتانه، بل حيناً يحتسب الأجر عند الله ـ بزعمه ـ لأن مخالفه عدو لله.
وله نصيب وافر منها أيضا ًذاك الكذاب الذي رأى ظِنةً فصيرها مِئنة، فأخذ يثير الظنون الفاسدة بين الناس، بمثل قوله لهم: رأيت زوجته تكلم فلانا، وبنات جيراننا يعدن فيساعة متأخرة من الليل، وفلانة تركب مع رجل غريب ... ومن هؤلاء من يحدث بكل ما سمع، ويزعم أنه لم يتهم وأنه وأنه .. وإنما هو ناقل، فيقول صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم "إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ وَلاَ تَحَسَّسُوا وَلاَ تَجَسَّسُوا .. ".
وهذه هي الأوصاف التي اختارها الله لهم:
ـ (وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (4)
ـ (فَأُولَئِكَ "عِنْدَ اللَّهِ" هُمُ الْكَاذِبُونَ) (13)
وصيغة الحصر في الآيتين للمبالغةكأن لا يوجد في الدنا من الفاسقين والكاذبين إلا هم،
و (عند الله) جملة حالية أي أنهم فيعلم الله الذي لا يدخله تغيير أو تبديل هم كاذبون.
ـ (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْبِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ) (15)، (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ) والتلقي عادة بالآذان لا بالألسنة لكنهم لسرعة إلقائهم لهذه الإشاعات بألسنتهم بمجرد سماعهم لها فكأنها عبرت للسان دون مرورٍ بالسمع، وتأمل خفة العقل هنا.
وفي القراءة الأخرى (إِذْ تُلْقُوْنَه) معنى آخر، فتُلقونه من الإلقاء وهو أن هؤلاء اعتادت ألسنتهم أن تتحدث بأعراض الناس في كل حين وتُؤلف التُّهم وتفترعها حتى لو من دون سماع لشائعة أصلاً، فأصبحت ألسنتهم مصانع تلقي الإشاعاتوالكذب الذي يبلغ الآفاق، فيلقونها جُزافاً من دون اكتراث ولا تأنٍ ولا محاسبة، وفي الصحيحين في حديث الرؤيا الطويل (وَأَمَّا الَّذِي رَأَيْتَ يُشَرْشِرُ فَمُهُ إِلَى قَفَاهُ وَمَنْخَرُهُ إِلَى قَفَاهُ فَذَاكَ رَجُلٌ يَخْرُجُ مِنْ مَنْزِلِهِ , يَكْذِبُ الْكَذِبَةَ فَيَشِيعُ فِي الآفَاقِ).
(وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ) ومن المعلوم أن القول يكون بالأفواه لا بغيرها، فما سر ذكرها؟ وجواب هذا أن القول لما لم تقلبه القلوب وتمحصه العقول أصبح مجرد حركة للأفواه لم تتأمل عُقباها.
وأما قوله سبحانه (وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ) فقد نطقت بما ليس للعبد معها إلا أن يرددها.
أما الجزاء:
فذكر الله لهم ثلاث عقوبات: (فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً) (4)، (وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا) (4) أي حتى يتوبوا، (لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (14).
وأما الشرط:
ـ فقال تعالى (يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (17)
(يَعِظُكُمُ اللَّهُ) الموعظة تأتي فيغالب القرآن ولا تُسند لفاعل (يُوعظ به) (يُوعظون بِهِ) (مَوعِظة)، وهنا جاء لفظ الجلالة صريحاً (يعظكم الله)، والموعظة تكون لمن علم التحريم أعظم ممن لم يعلمه، وكلاهما يوعظ العالم والجاهل.
(إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) شرط، ومن المقرر أن الشرط يلزم من عدمه العدم، فمن عاد فليس بمؤمن.
وهذا الشرط دليل عند الإمام أحمد على تكفير كل من رمى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها لأن الآيات نص فيها.
- وهنا واجبات أربع فرضها الله على المجتمع حين ورود شائعة تتعلق بالأعراض:
فأولها: حسن الظن ببعضنا (لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا) (12)، وتأمل قوله (بأنفسهم) فهم نفس واحدة، فكل ما يصيب المؤمن يصيب أخاه شاء ذلك أم أبى.
ثانيها: التكذيب المباشر والصريح إعمالا للبراءة الأصلية (وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ)، ولم يرض منهم بقول: لاندري .. الله أعلم .. قد يكون .. هذا مستبعد .. ونحو ذلك، بل يقذفون القاذفَ صريحاً بقولهم له هذا "إفك"و"بهتان" (مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ) (16)
ثالثها: هات دليلك وبرهانك أو أنت رأس الكاذبين:
(لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوابِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ) (13)
وهنا ثلاثة مؤكدات لاستحقاقهم هذا الوصف "عند الله" و "هم" و"ال"، وأنكاها أولها وثالثها تفيد وكأن الكذب حُصر فيهم، وأصل الكلام "فأولئك كاذبون".
رابعها: التروي وتقليب الأمر والنظر في العاقبة وترك العجلة في الكلام والحكم:
(إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) (15)، (مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا) (16).
ختاما ً .. في صحيح مسلم " كَفَى بِالْمَرْءِ كَذِبًا أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ ".
حفظ الله فروجنا وألسنتنا وجوارحنا من كل سوء،
وإلى السّوْر الثاني بمشيئة النور وعونه سبحانه،،
¥