وهكذا كان تنزل "النور" فأحكامها معللة فهي لا تكاد تذكر حكماً أو وصفاً إلا وتتبعه ببيان سببه أو الحكمة منه، فمن أول آية فيها علل الله سبحانه سبب تنزيلها وفرضها وتمامِ البيان في آياتها بقوله (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (1)، ولما شرع الملاعنة بين الزوجين حين القذف قال سبحانه: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) (10) أي ولولا فضل الله عليكم بإنزال حكم الملاعنة بين الزوجين لأُحرجتم وشق عليكم ما شدد الله به في مسألة شهود الزنا فحتى يخف على النفوس قبول مشروعية الملاعنة بين الزوجين بيّن أنها فضل ورحمة، وحين نهى عن قبول قذف القاذف إلا ببينة علل ذلك بأنهم كاذبون (فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ) (13)، وعلل الأمر بعفو الرجل عمن قذف أهل بيته بالفحش بقوله (أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ) (22)، وبعد الأمر بالرجوع إن لم يُؤذن لمن استأذن قال (فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ) (28)، وكرر نفس العلة مع الأمر بغض البصر (ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ) (30)، ونزل النهي عن ضرب المرأة برجلها إظهارا لزينتها (لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ) (31)، وحين ذكر أحكام الزينة للمرأة قال (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (31)، ولما أمر بالصلاة والزكاة وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم قال (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (56)، وعلل النهي عن مخالفته فقال (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ).
والسورة أغلبها هكذا يتخلل التعليل أحكامها، قد جاءت السنة بهذا أيضاً ففي مسند الإمام أحمد بإسناد جيد عن أبي أمامة قال: إِنَّ فَتًى شَابًّا أَتَى النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ائْذَنْ لِى بِالزِّنَا. فَأَقْبَلَ الْقَوْمُ عَلَيْهِ فَزَجَرُوهُ وَقَالُوا: مَهْ مَهْ. فَقَالَ: ادْنُهْ، فَدَنَا مِنْهُ قَرِيبًا، قَالَ: فَجَلَسَ، قَالَ: أَتُحِبُّهُ لأُمِّكَ؟ قَالَ: لاَ وَاللَّهِ جَعَلَنِى اللَّهُ فِدَاكَ. قَالَ: وَلاَ النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لأُمَّهَاتِهِمْ. قَالَ: أَفَتُحِبُّهُ لاِبْنَتِكَ؟ قَالَ: لاَ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ جَعَلَنِى اللَّهُ فِدَاكَ. قَالَ: وَلاَ النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِبَنَاتِهِمْ .. . الحديث
فإذا أردنا أن نبني أسوار العفة حول أبنائنا وبناتنا ونأمرهم بالطهر وننهاهم عن ضده؛ لابد أن نتعلم كيف نعلل؟
- فحين نوجههم لبعض الصداقات المفيدة أو الاشتراك بحلقات تحفيظ القرآن أو حضور بعض الأنشطة المفيدة لهم وما شابهها يجب أن نعلل ذلك تعليلاً مقنعاً.
- وحين نمنعهم من بعض الزملاء أو الزيارات أو الأماكن أو القنوات أو أنواعٍ من الجوالات أو بعض مواقع الإنترنت أو نحوها يجب أن نعلل كذلك.
- وإذا حذرناهم من رؤية أو سماع أو قراءة ما يخدش حياءهم لابد أيضاً أن نعلل.
- أو أثنينا على شخص أو موقف حدث أو ذممناهما فوضّح للمتلقي العلة في الحالين، فمثلاً هناك أشخاص مشاهير من الرجال أو النساء لهم شعبية جارفة من المغنين أو اللاعبين أو الأثرياء وأخلاقهم سيئة وثوب طهارتهم مُدنّس بقصص مشهورة أو مقاطع فيديو أو صور هابطة، وفي مثل هذا الموقف يجب أن نكون مؤهلين بدرجة عالية من وسائل التأثير والإقناع، لأن صورة واحدة أو مشهداً فاتناً من هؤلاء قد يهدم تربية سنوات.
- أيضاً عند الثواب أو العقاب أذكر العلة واضحة بدون لبس.
والأمثلة في هذا كثيرة جداً وإنما قصدت الإشارة لا الحصر،،
فإن سأل متدبر بأي شيء عللت سور النور؟
فالجواب أن العلل المذكورة فيها على نوعين:
الأول: تعليل بأمر ديني إما محبة أو رجاء أو خوفاً.
والثاني: تعليل بأمر دنيوي من السعة في الرزق وحصول الخير ونحوها.
¥