والأول أمثلته قد ملئت ما بين طرفيها ولا تخطئها العين من أول نظرة، ويكفيك منها قوله تعالى (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ).
فعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه جيء له بلبن فعرضه على جلسائه واحدا واحدا، فكلهم لم يشربه لأنه كان صائما، فتناوله ابن مسعود وكان مفطرا فشربه، ثم تلا قوله تعالى (يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار). فنبه على علة هذا الصيام، وقد فسر ابن مسعود الزيادة هنا بالشفاعة لغيرهم حين ضمنوا جنة ربهم.
فهم صاموا خوفاً من ذلك اليوم وطمعاً بالجنة والمزيد من الله الكريم سبحانه.
وهذا هو الأصل في التعليل أن يكون بالوعد والوعيد والجنة والنار، وطمعاً في رضى المولى وخشية من غضبه.
ويقع الخطأ الكبير منّا في تربيتنا لمن تحت أيدينا حين نفر من منهج القرآن إلى مناهج حادثة نُكثر فيها من استخدام مصطلحات (مستوردة) زاعمين أن رحى (التربية المؤثرة) تدور عليها، فتارة يُنادى بما يسمى بـ (الإيجابية) وأخرى (التحفيز) وثالثة (الإقناع) وهذه كلها طرائق (حق) لو اكتفت بحيزها اللائق بها، أما أن تُزاحِم أو تُقدَّم على منهج التربية بالمحبة والرجاء والخشية وبالوعد والوعيد والجنة والنار والقيامة والساعة والطامة والقارعة والحاقة والزلزلة ... التي امتلأت بها السور المكية فخطأ جارف وضلال يلوح، وويحُ من ترك منهج تربية القرآن واستعاض بغيرها من تجارب البشر طلباً للطُرق (الإيجابية) فيما يزعم، ولو أفاد منهما وجعل هذه تابعة لتلك لجمع الحسنيين.
والثاني: وهو التعليل بأمر دنيوي فله أمثلته أيضاً كقوله تعالى: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا) (55).
ويأتي التعليل بالأمرين معاً كقوله تعالى: (ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (27)، وقوله (وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا) (54)، وقوله (وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (60) فهذه عامة في الدارين، وغيرها كثير.
ومن أساليب الإقناع في السورة أن من جادل في جواز إظهار المرأة لزينة وجهها أو ملابسها أو غيرها فليأت وليفسر لنا آية القواعد وهي المرأة بلغ بها العمر ألا ترغب ولا تُرغب في النكاح (وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا) فحكمها من جهة الستر (فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ) والثياب هنا هي الجلباب الذي يغطى البدن كاملاً عدا الوجه، فتضع الجلباب ويبقى الدرع (القميص) والخمار (غطاء الرأس) بشرط ألا تكون هذه العجوز الآيسة من النكاح مظهرة لزينة لم تُعهد في جسدها أو ثيابها أو حُليها، وبعد كل هذا (وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ)، ثم جاء ختام الآية مشوباً بالتهديد (وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (60).
فما الذي بقي من العذر لامرأة فتيةٍ شابةٍ تظهر زينتها أم الرجال الأجانب عنها؟؟
وهكذا تأتي السورة لتغلق كل منفذ لأي احتمال عقلي يمكن أن يكون سبباً في تهاون الرجل أو المرأة في صيانة الشرف والعرض، بل وتحرك العقول لتزداد قناعة ويقيناً بضرورة حياطة العفة من كل دنس.
ـ[عصام العويد]ــــــــ[23 Dec 2010, 06:43 ص]ـ
السّوْر الرابع: أن العِفة في حقيقتها قضية قلبية وجدانية
فمن أُسس تربية "النور" للمجتمع تربية الأجيال على محبة الطهر وبغض الفاحشة.
¥