لقد توصلت الألسنية إلى درجة من التعقيد مماثلة تلك التي تلقاها علوم الطبيعة، وبذلك استحقت اسم العلم بعد أن باتت، قادرة على بناء نماذج متلاحمة وناجعة لموضوع دراستها، وكما يقول روجيه غارودي: " فقد توصلت الألسنية قبل سائر العلوم الإنسانية الأخرى إلى بلوغ دقة تشابه دقة علوم الطبيعية فقد حازت على موضوعية حقيقية، ومن خلال الانثرويولوجيا البنائية" (16).
وإذا كان هناك من المهتمين بالبنيوية قد ركزوا على الجانب اللغوي الداخلي مثل دي سوسير، "فإن غولدمان قد اتفق مع بارت في أن دراسة البنية الداخلية أولاً، مع ضرورة دراسة الحياة الانفعالية للمؤلف، ولكنه يتجاوزها بالتأكيد على اندماج الأثر الأدبي ومؤلفه في بنية أوسع هي البنية الاجتماعية والذهنية الثقافية، وهكذا فإن عملية الفهم أو الدراسة الظواهرية للنص تكون مجردة من أي نص إذا لم توّد إلى عملية التفسير أو الدراسة التكوينية للنص" (17).
فقد كان دي سوسير يرى بأن اللغة:"عبارة عن نظام من العلاقات ترتبط فيما بينها بعلاقات عضوية من التوافق والاختلاف تبدأ من الكلام إلى الجملة إلى الكلمة، وحتى تنتهي إلى السمة المميزة لأصغر وحدة مرتبة في اللغة مثل الجهر والهمس والشدّة وغيرها" (18).
وهكذا نادى رولان بارت قائلاً: " علينا أن نكتشف عالم اللغة، على نحو ما نستكشف الآن عالم الفضاء، وربما أصبح هذان الكشفان أهم سمة يتميز بها عصرنا" (19).
وهكذا فقد كونت الالسنية البنيوية مجالاً معرفياً قائماً بنفسه، حيث حققت مجموعة من الشروط العلمية التي تصنفها مع العلوم الدقيقة "ولإن من خصائص اللغة الإنسانية الإبداع أو القدرة الإبداعية أي قدرة اللغة الإنسانية غير المحدودة، ونعني بها الطاقة أو القدرة التي تجعل أبناء اللغة الواحدة قادرين على إنتاج وفهم عدد كبير بل غير محدود من الجمل التي لم يسمعوها قط، ولم ينطق بها أحد من قبل" (20).
· الاستفادة من الدراسة السيمولوجية
والسيمولوجية تعني علم الرموز والإشارات، وترى بأن الأحداث والظواهر والأشياء ليس لها وظيفة ثقافية بقدر ما لها من معنى والأشياء التي لا معنى لها، إنما هي بطبيعتها ظواهر اجتماعية أفضل أسلوب لفهم أسلوب البنى المشتركة التي عن طريقها يؤلف المعنى ذاته.
أما دي سوسير فيعرف السيمولوجية: "بأنها العلم الذي يدرس حياة العلامات في كنف الحياة الاجتماعية، من خلال عدم الفصل بين مادة التعبير ومعنى التعبير، وهي تقترب من المحتويات، وتحاول الابتعاد شيء فشيئاً عن الدلالات" (21).
أما رولان بارت فيرى بأن السيمولوجية "هي ذلك العمل الذي يصفي اللسان، ويطهر اللسانيات، وينقي الخطأ- مما يعلق به أي- الرغبات والمخاوف والإغراءات والعواطف والإحتجاجات والإعتذارات والإعتداءات والنغمات، وكل ما تنطوي عليه اللغة الحية" (22).
في علم السيمولوجيا ابتعاد عن السلطة وقيودها ولهذا نراه يقول: " كلما كان هذا التدريس حرّاً، فإن الخطاب عليه أن يتحرر من كل رغبة في السيطرة. إنها تقوم ضد السلطة في أشكالها المتعددة "
وننتقل إلى دراسة نص آخر للشاعر نزار قباني بعنوان: قارئة الفنجان:
فَحبيبةُ قلبك يا ولَدي
والقصر كبيرُ يا ولدي
وأميرةُ قلبك نائمة
من يَطلُب يدها من يدنو
من حاول حَلَّ ضفائِرها
نائمةُ في قَصر مَرصودْ
وكلابُ تحرسُهُ وجنودْ
من يَدخُل حجرتها مَفْقُودْ
من سُور حَديقتها مَفقْودْ
يَا ولدي مفقوْدٌ مَفقْودْ (23)
في هذا النص الشعري، يستحضر الشاعر قارئة فنجان، ليجعل منها الذات المحاورة والمشخصة لواقعه ومستقبله، كعادة شعراء العرب القدماء في ايقاف الأصحاب، ليبثوا لهم آمالهم وآلامهم.
إن المفردات الشعرية لهذه المحبوبة هي: حبيبة قلب الشاعر، والنائمة في القصر المرصود، والقصر كبير، وحراسه الكلاب والجنود، ومصير الداخل لحجرتها مفقود، وكذا الطالب ليدها والذي يدنو من سور حديقتها، والمحاول الاقتراب منها مفقود.
فأي امرأة جميلة هذه التي تحرسها الكلاب والجنود، والنوم ملازم لها؟ ولا يستطيع أحد الاقتراب منها أو مجرد المطالبة بها، فمصيره الفقدان في عالم القتل والتعذيب.
هناك من يقف عند حدود الدراسة السطحية فتصبح عنده مجرد امرأة جميلة، وصورة للحب والعشق، لكن الدراسة المتعمقة تجعل من هذه المرأة صورة للسياسة والقهر.
¥