تقتضي المجموعة الأولى شخصين اثنين، أولهما المتلفظ بإحدى الجمل، أو ببعضها، أو بكلّها ـ ولنفترض أنه إمام يخطب يوم الجمعة ـ وثانيهما راوٍ يحكي لغيره أقوال الإمام ومحتوى خطبته. وبذلك يصبح خطاب الراوي متضمنا خطاب الإمام بقوة قانون سرد الخبر ونقله بمحتواه ودلالته. انطلاقا من هذه الوضعية، يكون الاختصار شبه قانون عام يطبع الخطابات السردية طالما أنه يقفز على الكثير من الأقوال والأوصاف التي يرى الراوي عدم الفائدة من ذكرها، ويكون الاختصار أيضا خير وسيلة تخفي ما قد يحدث للراوي من نسيان بعض الأشياء ومن عدم تذكره لكلّ ما قاله الإمام بصفة حرفية؛ ونسيان الجزئيات والتفاصيل أمر طبيعي في الإنسان. فالتسجيل الآلي هو الذي يقوم بنقل كل ما قيل بشكل مطلق.
يتضح إذن، أن الراوي ينهج أسلوب الاختصار والاختزال من خلال استثمار الكلمات المنحوتة وتوظيفها وفق طريقة مفترضة كالآتي: «بعد البسملة والحمدلة والهيللة عالج الإمام موضوع كذا في الإسلام…» فرواية الخبر في الكلام هي التي تحتاج إلى الاختصار، وليس إنتاج الخبر وإنجازه في الكلام. وللاستدلال على هذا المبدإ يكفي الاستشهاد بهذا البيت الشعري، يقول عمر بن أبي ربيعة:
لقد بسملت ليلى غداة لقيتُها فيا حبذا ذاك الحبيب المبسمل (6)
من الواضح أن النحت أسعف الشاعر في اختصار حدث لقائه بليلى، ثمّ نقله إلى المتلقي في خطاب ذي قيود معروفة.
ولا تنفصل دواعي النحت عن الرواية ذاتها؛ إذ يرتبط بعضها بتجاوز التفاصيل والجزئيات، وبعضها يتعلق بالنسيان العفوي، وبعضها يرتبط بالراوي ذاته من حيث قدرته اللغوية على حسن التعبير وسلامته، طالما أنه ينتج خطابا مبنيّا على خطاب سابق. وهذه قضايا تخص سياق الرواية ومقامها وظروفها ولا تخص تقنياتها. ومعنى ذلك أن النحت مرتبط بمستوى تداولي وليس بمستوى شكلي خاص بكل ما هو صرفي ـ اشتقاقي.
انطلاقا من هذه الرؤية، هل يعد ذكر الجملة الدعائية (صلى الله عليه وسلم) جزءا من رواية الخطاب أم جزءا من إنجاز الخطاب؟ كيف يختصرها الراوي وينحت منها كلمة واحدة؟
يبدو أن علماء العربية لم يجرؤوا على نحت كلمة من صلى الله عليه وسلم لسبب لغوي ولآخر أخلاقي. أمّا الأول فإن الاختصار على لسان الراوي يأخذ الصورة المفترضة التالية: «بعد الصلاة والسلام على رسول الله قال الإمام…» وفي هذه الحال يسقط الاختصار وينعدم في هذا النمط من الإنجاز اللغوي، ومن ثمّ لا مجال ليتحقق النحت ما دامت وظيفته منعدمة. بيد أن التحرير والكتابة باللغة العربية تختصر الدعاء المذكور إما إلى هذه الصورة (ص)، فتكون الكتابة كما يلي:
قال رسول الله (ص).
وهذا الاختيار قلما يستعمله الباحثون والكتاب والعلماء، وإما في صورة أكثر اطرادا، فتصبح الكتابة كما يلي:
قال رسول الله r
وهذه حال تبعد النحت عن وظيفته ليصبح شكلا من أشكال الاختزال في مستوى الكتابة.
أما السبب الثاني فيكمن في أن أخلاق المسلم تحتم عليه أن يصلي على الرسول صلى الله عليه وسلم راويا كان أم محدثا أم مستمعا. ومما يؤكد هذا الحضور الأخلاقي الحديث النبوي الشريف: «الْبَخِيلُ مَنْ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ ثُمَّ لَمْ يُصَلِّ عَلَيَّ» (رواه أحمد، كتاب مسند أهل البيت، رقم الحديث:1645).
ولهذا يبدو أن النحت بوظيفته لم ينجح في تأسيس مختصر لهذا الدعاء في اللغة العربية.
فيما يخص المجموعة التمثيلية الثانية فإنها تقتضي شخصا واحدا، راويا كان أم متكلما عربيا، إذ يكفي أن يقول قائل: «أنا عبشمي النسب» ويقول آخر بوصفه راويا: «هذا الرجل طبرخزي (7) المولد.» وفي هذه الحال يرتبط النحت بمستوى لغوي في شقه الاشتقاقي والصرفي، ولا يتعلق بمستوى تداولي.
ما نستنتجه من الحالين معا هو أن نشأة النحت في اللغة العربية كانت استجابة لضرورة تداولية خطابية فرضتها عوامل اجتماعية وفكرية، كما كانت استجابة لضرورة لغوية فرضها الاهتمام اللغوي بكل ما هو حيوي في الحياة الاجتماعية.
¥