تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

إي وربي إنهم بنوا لنا قواعد غزيرة، وفوائد عزيزة، وفرائدة جميلة، وشرائد جليلة، ودقائق علمية لطيفة، وجواهر ولآلئَ وَدُرراً ثمينة، كانت مدفونة في خِضَمِّ الأمهات، ومبعثرة هنا وهناك في بطون البنات، (لا فُضَّ فُوهُمْ، ولا سعد من يجفوهم). أجادوا وأفادوا، نصوص بينة، وفصوص غالية، ومباحث عالية، وأدلة نيرة، وبراهين سامية، علم وعمل (ومن لغا فلا جمعة له). بنوا فأحكموا، وهدموا البِدَعَ فحطموا، وقالوا وأصَّلوا، وعملوا وأخلصوا، وأَلَّفُوا ووُفِّقُوا، وحققوا ودققوا، وجرحوا وعدلوا، وصححوا وعَلّلُوا، واستدركوا وأفادوا، وانتقدوا وأجادوا، وسددوا وبعبارة: (فكل الصيد في جوف الفرا) أُعطوا ذكاءً وزكاءً، نصروا وكسروا، من غير رشقٍ بالأسنة، ولا مشقٍ بالألسنة، ولا تمزيق الأديم، ولا مضع اللحوم، لا تفاصح، ولا جعجعة، ولا قعقعة، ولا ضجيج يصم الآذان، ولا تفاضح باسم التناصح بمساعدة من الشيطان، ولا إليكَ إليك.

وَالشَّمسُ في صَادِعِ أنوارهَا ** غنية عن صفة الواصف

عليهم فَلْيَبْكِ العلم وأهلُه. فهم كما قال الإمام أحمد عن شيخه الشافعي: (كالشمس للدنيا، وكالعافية للناس، فهل لهذين من خلفٍ؟ أوْ مِنْهما من عوض؟) و (الحر من راعى وداد لحظة، وانتمى لمن أفاده لفظة). وأبو الإفادة أقوى من أبي الولادة.

صُحْبَةُ يومٍ نَسَبٌ قَرِيب ** وذمّة يَعْرِفها اللبِيب

ولله در عثمان رضي الله عنه القائل: (فإن المعرفة بالناس بها يصاب العدل). وصدق الحافظ السخاوي حين قال: (إنما الناس بشيوخهم، فإذا ذهب الشيوخ فمع من العيش؟) لأن العلم رَحِمٌ بين أهله. ورضاع أدبي. فهذا النووي جعل العلم مثل الرضاع الشرعي حيث يقول في (مجموعه) وهو يترجم للإمام أبي العباس بن سريج: (وهو أحد أجدادنا في سلسلة الفقه) ويقول في مقدمة (تهذيبه): (إنهم أئمتنا وأسلافنا كالوالدين). وفي الصحيح من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله r: (.. إنما أنا لكم مثل الوالد لولده- وفي لفظ آخر: بمنزلة الْوَالِدِ أُعلمكم)، فبين الشيخ والتلميذ أُبوة علمية ولهذا صدق من قال:

أُفَضِّلُ أُسْتَاذي على فضل والِدِي * وَإن نالني من والدي المجد والشرف

فهذا مُربي الروحِ والروحُ جَوْهَرٌ * وذاكَ مربي الجسمِ والجسمُ كالصَّدَف

ولذا تعظم المصيبة بفقدهم، وتَعُم الرزية بموتهم. قال ابن مسعود: (موت العالم ثُلْمَةٌ في الإسلام، لا يسدها شيء ما طرد الليل والنهار). وروي مرفوعا بلفظ: (إذا مات العالم انثلم في الإسلام ثُلمة، لا يسدُّها شيء إلى يوم القيامة) قال حماد بن زيد: (كان أيوب يبلغه موت الفتى من أصحاب الحديث فيُرى ذلك فيه، ويبلغه موت الرجل يذكر بعبادة فما يرى ذلك فيه). وقال أيوب: (إِنِّي أُخْبَرُ بموت الرجل من أهل السنة فكَأَنِّي أفقد بعض أعضائي). وقال أيضاً: (إن الذين يتمنون موت أهل السنة يريدون أن يطْفِئُوا نور الله بأفواههم، والله متم نوره ولو كره الكافرون). ولما مات زيد بن ثابت قال ابن عباس رضي الله عنهما: (يا هؤلاء من سره أن يعلم كيف ذهب العلم، فهكذا ذهاب العلم، وأيم الله لقد ذهب اليوم علمٌ كثير، يموت الرجل الذي يعلم الشيء لا يعلمه غيره، فيذهب ما كان معه -ويشير إلى قبر زيد ويقول:- لقد دفن اليوم علمٌ كثير) وقال أيضاً: (أَتَدرون ما ذهاب العلم؟ قلنا: لا، قال: ذهاب العلماء ولا يزال عالمٌ يموت، وأثر للحق يَدْرس حتى يكثر أهل الجهل وقد ذهب أهل العلم فيعْملون بالجهل ويدينون بغير الحق ويَضِلون عن سواء السبيل). قال هلال بن خباب: سألت سعيد بن جبير قلت: (يا أبا عبد الله ما علامة هلاك الناس؟ قال: إذا هلك علماؤهم). ولذا عظمت المصيبة بفقدهم، وعمت الرزية بموتهم

تعلّم ما الرزية فَقْدُ مَالٍ ** ولا شاة تموت ولا بعير

ولكن الرزية فَقْدُ حُرٍّ ** يموت بموته بشر كثير

وأرثى بيت قالته العرب. بيت عبدةَ بن الطيب:

فما كان قيسٌ هلكُه هلكَ واحِدٍ * ولكنه بنيانُ قَومٍ تَهَدَّمَا

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير