وتنبيه الخطاب قاض بأن من قتل نفسه لا عدواناً ولا ظلماً وإنما نصرة للدين وذوداً عن الملة الغراء، فإنه محمود الغب حسن العاقبة". [شبكة «أنا مسلم» للحوار الإسلامي.]
الإيراد الثاني: "أن أقوال العلماء والمفسرين دلت على خلاف هذا الفهم .. وابن جرير الطبري رحمه الله على علمه وسعة اطلاعه بأقوال المفسرين لم يشر إلى أن أحداً منهم قد ذهب إلى ما ذهب إليه المخالفون .. لا أحد من المفسرين قد فهم ما فهمه المخالفون من الآية ".
جوابه: كون أقوالهم دلت على خلاف هذا الفهم لا يعني خطؤه، وإنما يكون الأمر محل بحث إذا تضادت أقوالهم مع هذا الفهم، وهذا غير حاصل ولله الحمد.
وإن كان أحد منهم -بل منهم ومن غيرهم من الأصوليين والمحدثين واللغويين والعلماء كلهم- أنكر هذا الفهم فأين كلامه؟!.
وكتاب الله تعالى لا تنقضي عجائبه، والمفسرون - على اختلاف مناهجهم في التفسير- ليسوا قادرين على ذكر كل الأحكام المستنبطة من الآية، وأنت ترى أن الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى استنبط من هذه الآية ما لم يستنبطه الإمام ابن جرير رحمه الله تعالى وهو قوله: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ}؛ أي بارتكاب محارم الله، وتعاطي معاصيه، وأكل أموالكم بينكم بالباطل، فابن جرير لم يشر إلى هذا.
وأيضاً: فإننا عندما نحاكم فهماً أو استدلالاً، ينبغي أن نرى إن كان موافقاً للغة العرب، متبعاً أصول الاستنباط، غير مخالف لسنة نبينا صلى الله عليه وسلم، وغير ذلك من الضوابط، لا أن نحتج على خطئه بكون المفسرين لم يذكروه! هذا أمر يُستأنس به، لكن لا يُحتج به على صحة استدلال أو خطئه!.
الإيراد الثالث: "أن قيد {عُدْوَاناً وَظُلْماً} خرج بمقتضاه - كما تقدم من كلام المفسرين - من يقع في شيء من ذلك خطأ وجهلاً ونسياناً أو تنفيذاً لحدٍ من حدود الشرع كحد قتل القاتل أو قتل الكافر المرتد أو القتل الخطأ ونحو ذلك .. فهذا مستثنى بمنطوق أدلة أخرى لا يطاله الوعيد {فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارا}.
قال الشيخ: كذلك يُستثنى المجاهد في سبيل الله الذي يستشرف مواطن الخطر، وينغمس في صفوف العدو المحارب ـ لمصلحة راجحة ـ فيُقتل على أيديهم .. فهذا ـ لو سُمي مجازاً بأنه قاتل لنفسه على اعتبار أنه قد اقتحم أسباب الموت والقتل ـ فإنه مستثنى بمنطوق نصوص أخرى تأذن بالجهاد والانغماس في صفوف العدو لمصلحة راجحة .. لكن أدلة الجهاد والانغماس التي قد يُقتل فيها المرء بيد عدوه شيء .. وأن يَقتل المرء ـ بعملية متشابهة محفوفة بالمحاذير ـ نفسه بنفسه شيء آخر! ".
جوابه: أن التفريق بين قتل الإنسان نفسه بنفسه وبين قتله على يد عدوه عند انغماسه فيهم - إذا كان ذلك في سبيل الله تعالى – إنما يكون صحيحاً لو لم يكن للقيد هنا مفهوم، أعني بالقيد قوله تعالى: "عُدْوَاناً وَظُلْماً "، أي لو أنه كان خارجاً مخرج الغالب، لكن هذا غير متجه، -كما سيأتي في جواب الإيراد الرابع -، فالحاصل أن القاتل نفسه في سبيل الله تعالى سواء فعل ذلك بيده أو قتله عدوه كان فعله جائزاً، لأنه خارج على الحالتين من القيد أصلاً، بل هو داخل في الوعد المفهوم من الآية بالمخالفة، والمنصوص عليه في أحاديث الانغماس وحمل الرجل الواحد على جيش الكفار.
الإيراد الرابع: "أن يقتل المرء نفسه بنفسه لأي غرض كان هو ممن يقتل نفسه {عُدْوَاناً وَظُلْماً}، وبالتالي فالوعيد الوارد في الآية {فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً} وفي النصوص الأخرى المحكمة التي تحرم على المرء أن يقتل نفسه بنفسه .. يُحمل عليه، فالآية ـ كما هو ظاهر ـ دليل على ما ذهبنا إليه من القول بحرمة العمليات الانتحارية المسماة بالاستشهادية لا حظَّ فيها للمخالف".
جوابه: قد أجاب الشيخ عمر يوسف جمعة على هذا الإيراد فقال: "وربما تسرع عَجِل فقال: إن هذا القيد لا مفهوم له لأنه خرج مخرج الغالب فهو إذاً صفة كاشفة، فما من إنسان يقتل نفسه إلا وهو معتد و ظالم في ميزان الله تبارك وتعالى!.
وأقول جواباً: الأصل عند الجمهور القائلين بحجية مفهوم المخالفة هو اعتبار القيد وعكس الحكم عند زواله، ولا يترك الأصل إلا بقرينة ودليل، ولا دليل هنا "ا. هـ.
وأنا أقول للشيخ: ما هي القرينة التي حملتك على ترك هذا الأصل؟!.
أما قول الشيخ: "وفي النصوص الأخرى المحكمة التي تحرم على المرء أن يقتل نفسه بنفسه .. ". ينبغي أن يقيد بنية العدوان والظلم، فإن صور القتل المذكورة في الأحاديث لا يُتصَّوَّر أن يكون فاعلها إلا جزعاً متسخطاً، فلا يتَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ أو يتَحَسَّى سَمًّا أويقَتَلُ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ، إلا من حاله ما وصفتُ، فتبين من هذا أن وصف الجزع والتسخط واستعجال الموت وصفٌ معتبر في النهي عن قتل الإنسان نفسه، وأن هذه الأحاديث إنما هي في النهي عن قتل الإنسان نفسه عدواناً وظلماً.
الإيراد الخامس: "أنه ليس بمثل هذا الدليل المتشابه حمال الأوجه .. تُزهَق الأنفس .. وتُبنى المسائل الخطيرة الكبيرة، وتُرد الأدلة المحكمة الصريحة الدالة على حرمة أن يقتل المرء نفسه بنفسه وما أكثرها".
جوابه: تقدم في الجواب عن الإيراد الرابع، وهو أن النهي في هذه النصوص المحكمة إنما هو عن القتل عدواناً وظلماً، وليس نهياً عن قَتْلِ الإنْسَانِ نَفْسَهُ فِي سَبِيْلِ اللهِ تَعَالَى.
ويضاف أيضاً: أن الاشتباه أمر نسبي فما اشتبه على الشيخ حفظه الله تعالى، غير مشتبه على غيره!.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وَكَتَبَ: أبُو الحَسَنَاتِ الدِّمَشقِيُّ.
2/ 3/1428هـ.
¥