وهذا ما وقع لأبي البيض, فرجح مذهب ابن القيم, ثم اضطرب بسبب إعجابه بقول إمامه الأكفر ابن العربي، وقد حكي هذا القول عن شيخ الإسلام ابن تيمية فيما أورده ابن القيم في حادي الأرواح وحكاه عن بعض الصحابة , والجدير بالذكر أن الإمام ابن القيم رحمه الله و شيخه رجعا عن ذلك كما يستفاد من كلامهما الكثير في العقيدة السلفية التي لم تحد قيد أنملة عما أجمع عليه السلف.
وبعد هذا نأتي بكلام أبي البيض في رسالة منه إليَّ, وهي مما سطا عليه أبو الفتوح فأورد بعضها في (در الغمام الرقيق) ما نصه:
(ومسألة فناء النار, قد ذكر ابن القيم أدلتها, فشفى وكفى, وتبعه بعض كبار العارفين (يعني ابن العربي الحاتمي والتعبير به (وتبعه) خطأ لأن هذا كان قبل ابن القيم بزمان)، وصرح بأنه يأتي عليها يوم ينبت فيها الجُرجير, وإن أجاب الشعراني عن ذلك بأن المراد الطبقة العليا طبقة عصاة المؤمنين, لا درجات الكفار, والأدلة متضاربة, إلا أن أدلة القول بفناء نفسها كما يقول ابن القيم أو للألم مع بقاء صورة العذاب كما يقوله الشيخ الأكفر أرجح (وهو خبر إلا أن أدلة ... ) ويكفي صفة الرحمة مع غلبتها لصفة الغضب, وسبقيتها أيضا, إذ لا معنى لهذه السبقية والغلبة, إلا ظهور أثرها وانقطاع الغضب, فالأمر دائر بين انقلاب العذاب عذوبة, وذهاب الألم به مع بقاء الصورة تحقيقا للوعيد كما يقول الشيخ الأكفر, وبين ما يقوله غيره من الفناء على أن هذا القول قد يرجع إلى قول الشيخ الأكبر بأن المراد بالفناء ذهاب الألم وانقطاع العذاب لا صورته التي هي في الحقيقة عين النعيم, فالقولان عندي سواء في المعنى, وإلى ذلك نميل, وبه ندين الله تعالى).
ويلاحظ أن أبا الفتوح رد على شيخه هذا بمنتهى الأدب وهذا عجيب, ولو كان أبو البيض حيا ما جرؤ أبو الفتوح على مخالفته, ثم إن المتأمل في كلام أبي البيض يدرك أنه لم يفطن لتناقض ابن العربي في كلامه بين حكمه بفناء النار حتى ينبت فيها الجرجير, وتصفق أبوابها لفراغها وخلوها عن نزلائها , وبين حكمه ببقاء صورتها تحقيقا للوعيد إلا أن عذابها ينقلب عذبا حلوا ونعيما, ورغم هذا فقد وافقه أبو البيض وصرح أنه يميل إلى القولين المتناقضين ويدين الله تعالى بهما, وهذا من غلبة الشقاء عليه, وإلا فهل يقول مسلم بأن عذاب جهنم الذي أعده الله لأعدائه ووصفه بأبشع الأوصاف وأقبح النعوت في عشرات الآيات ينقلب عذبا ونعيما ينعم به أهل النار, وهل هذا إلا تحد لله, واستهزاء بكلامه, ومعاكسة لمراده, نسأل الله السلامة والعافية.
وهي في الحقيقة فاقرة ثانية تضاف إلى فاقرة فناء النار, وبعد هذا لا يلام شيخ الإسلام ابن تيمية رضي الله عنه إذا صرح في كثير من كلامه بأن كفر هؤلاء الاتحادية أقبح من كفر اليهود والنصارى, وهذا كلام ابن العربي نظما في الموضوع في نونية له: [الطويل]
فلم يبق إلا صادق الوعد وحده ** وما لوعيد الحق عين تعاين
وإن دخلوا دار الشقاء فإنهم ** على لذة فيها نعيم مباين
نعيم جنان الخلد فالأمر واحد ** وبينهما عند التجلي تباين
يسمى عذابا من عذوبة طعمه ** وذاك له كالقشر والقشر صائن
ومآل هذا الكلام أن مصير الكافرين إلى سعادة ونعيم, ونسأل الله أن يحشرهم (أي الشيخ الأكفر وأبا البيض ومن يدين بدينهم) معهم يوم القيامة، ويقال لهم: (هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) (المطففين: من الآية17). ويقال لهم: (اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (الطور:16).
الفصل الرابع
قوله بجواز رؤية الله تعالى يقظة ومناما في الدنيا وادعاؤه ذلك
مسألة رؤية الله تعالى يقظة فاقرة من فواقر الدهر التي لا علاج لها إلا السيف, لأن الأنبياء والمرسلين وسيدهم وأفضلهم سيدنا محمد عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام لم تحصل لهم, وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل رأيت ربك؟ يعني في المعراج فأجاب (نور أنى أراه)، وهو صحيح لا غبار عليه , وقد ورد تفسير قوله: (رأيت نورا) بأنه حجاب العظمة, وهذا كلام فصل قاطع للنزاع, وقد حرره بأسلوب علمي متين الإمام ابن أبي العز في شرح الطحاوية, وهذا كليم الله موسى بن عمران عليه السلام, طلب رؤية الله عندما كلمه في الطور , فقال: (رب أرني أنظر إليك, قال لن تراني
¥