ويناقش هذا الاستدلال من وجهين:
الوجه الأول:
أنه قد اختلف في سند هذا الحديث اختلافا كثيرا، فقد اختلف فيه على الأوزاعي، حيث رواه الأوزاعي عن يحي عن أبي سلمة عن أبي أمية الضمري ثم رواه الأوزاعي عن يحي عن أبي قلابة عن أبي المهاجر عن أبي أمية الضمري ثم رواه الأوزاعي عن يحي عن أبي قلابة عن أبي أمية الضمري [21].
كما اختلف فيه أيضا على معاوية بن سلام وعلي بن المبارك: فقد رواه عثمان عن معاوية عن يحي بن أبي كثير عن أبي قلابة: أن أبا أمية الضمري .. كما رواه عثمان عن علي بن يحي عن أبي قلابة عن رجل أن أبا أمية أخبره [22].
ولهذا الحديث شاهد من حديث أنس بن مالك الكعبي،إلا أنه أَيضا مختلف في إسناده، فقد رواه سفيان الثوري عن أيوب عن قلابة عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "إن الله وضع عن المسافر نصف الصلاة، والصوم وعن الحبلى والمرضع" [23].
وعن ابن حبان عن عبد الله عن ابن عيينة عن أيوب شيخ من قشير عن عمه.
وعن عبد الله عن خالد الحذاء عن أبي قلابة عن رجل قال: أتيت النبي صلى اللّه عليه وسلم وهكذا .. [24].
وقد روى أبو داود هذا الحديث عن طريق شيبان بن فروخ عن أبي هلال الراسبي عن أبي سواد القشيري عن أنس بن مالك- رجل من بني عبد الله بن كعب أخوة بني قشير- وقد رواه بلفظ "أغارت علينا خيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم فانتهيت- أو قال- فانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يأكل فقال: اجلس فأصب من طعامنا هذا، فقلت: إني صائم، قال:- فقال- اجلس أحدثك عن الصلاة وعن الصيام: إن الله وضع شطر الصلاة- أو نصف الصلاة والصوم عن المسافر وعن المرضع أو الحبلى- والله لقد قالهما جميعا أو أحدهما- قال: فتلهفت نفسي ألا أكون أكلت من طعام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم" [25] وقد سكت عنه أبو داود.
وقد رواه الترمذي بنفس اللفظ الذي أورده به أبو داود ثم قال: "حديث حسن" [26].
الوجه الثاني:
إن لفظ (وضع) في الحديث يفسر بمعنيين، أولهما: وضع: بمعنى أسقط بلا مقابل وهذا خاص بالنسبة لشطر الصلاة في السفر. وهذا القول مستفاد من الكتاب والسنة، فقد ورد فيهما قصر الصلاة في السفر بلا مقابل.
المعنى الثاني: أن وضع: أي أسقط الوجوب في الحال مع القضاء في المستقبل وهو بالنسبة للصوم للمسافر والمرضع والحامل وإنما قلنا بذلك أيضا للإجماع على أن المسافر والمرضع والحامل إن أفطر كل منهم في رمضان وجب عليه القضاء بعد زوال عذره.
فإسقاط الصوم هنا عن المسافر ليس بإطلاق، بل هو إسقاط للوجوب الفوري مع وجوب القضاء بعد ذلك, إنْ أفطر عملا بالرخصة، أي أن إسقاط الوجوب الفوري هنا رخصة فمن شاء أخذ بها وأفطر, ومن شاء عمل بالعزيمة وترك العمل بالرخصة، وهذا هو مدلول الرخصة، فللمكلف الأخذ بها وهو أفضل، أو العمل بالعزيمة ولا جناح عليه. وقد فسرها صلى اللّه عليه وسلم بذلك في حديث حمزة بن عمرو الأسلمي رضي اللّه عنه حيث قال: يا رسول اللّه: أجد بي قوة على الصيام في السفر فهل علي جناح فقال رسول الله صلى اللّه عليه وسلم: "هي رخصة من اللّه فمن أخذ بها فحسن ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه" [27].
الدليل الخامس: عن ابن عباس رضي اللّه عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عام الفتح في رمضان فصام حتى بلغ الكديد ثم أفطر .. قال: "وكان صحابة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يتبعون الأحدث فالأحدث من أمره" [28].
وفي رواية أخرى عن طريق الزهري أيضا- جاء فيها " قال الزهري: وكان الفطر آخر الأمرين، وإنما يؤخذ من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالآخر فالآخر" [29].
وفي رواية ثالثة: قال ابن شهاب: "فكانوا يتبعون الأحدث فالأحدث من أمره ويرونه الناسخ المحكم" [30].
واضح من الحديث أن الفطر في السفر كان آخر الأمرين وأنه قد نسخ حكم جواز الصيام فيه, الذي كان موجودا قبل ذلك.
ويناقش هذا الاستدلال بما يلي:
أولا: أن عبارة: (فكان الفطر آخر الأمرين)، من قول ابن شهاب الزهري، وقد أشار إلى ذلك الإمام مسلم من خلال عرضه لسند الحديث، كما أوضحناه في ذكرنا لروايات الحديث الثلاث.
ثانيا: ينبغي أن يفهم أن مراد الزهري من الأمرين: هما عزيمة الصيام في السفر والرخصة في الفطر فيه, وعلى هذا يكون الدليل متمشيا مع رأي الجمهور.
¥