وإن من أجل أسماء الله تعالى و أوصافه: وصفَه بالمغفرة؛ فهي عنوان الكمال، وبرهان الجلال والجمال، فهي ستر للعيوب، وغطاء للذنوب وهي بداية العفو، وبريد الرحمة، ولما تعددت الذنوب، من صغيرة إلي كبيرة، وكثر الناس في الزمان والمكان، وكلهم خطاء تعددت صفة المغفرة فقيل مرة:غافر، ومرة:غفور، ومرة:غفار , ففي غافر بداية، وفي غفار تكرار، وفي غفور عِظَم 0
وهذه الصفات ليست قائمة على المجاز لأنها لا تقبل الزيادة ولا النقصان، وليست قائمة على الادعاء،بل هي قائمة على الحقيقة وما تعددت الصيغ إلا للإشعار بأنها بلغت المنتهى0
وتنوُّع المجىء بها في القرآن الكريم بين التعريف والتنكير إنما كان لتنوع السياقات داخل كل سورة، فسياق يهدف إلى اختصاصه بالمغفرة، وسياق يهدف إلى عمومها،وسياق يبشر، وسياق يحذر، ولكل مايناسبه0
كما أن هذه الأسماء تعددت أماكنها داخل الجملة، لكن أغلبها جاء في الفاصلة، وكأنها نتائج أو تلخيص لما سبقها من معان 0
وأول الأسماء (غافر)، ولم يرد إلا مرة واحدة في القرآن الكريم،وفي سورة كان عنوانها غافر، ولقد جاء هذا الاسم في صحبة جمع من الأسماء تحمل صفات الجلال وتحيط بها ظلال التهديد لمن كذبوا بالقرآن ونزوله على النبي العدنان؛ لذلك كان السياق سياق تهديد حتى يعودوا.
أما اسمه (الغفار) فلقد جاء في خمسة مواضع، وجميعها جاءت في سياق رفع الحرج عن الذنوب المتكررة في أمور الرزق، كما أنه مفتاح لسعته وكثرته إذا لزم الناس الاستغفار.
أما اسمه الغفور فهو أكثر الأسماء شيوعا في القرآن الكريم حيث ورد إحدى وتسعين مرة،وحازت سورة النساء المرتبة الأولى في ذكر هذا الاسم الكريم مما يعكس شدة احتياجهن إلى المغفرة الدائمة من الرجال والتغاضي عن الهنات المتوالية منهن كما وصى ديننا الحنيف.
وقد تنوعت صورة هذا الاسم وصورة الجملة التي ورد فيها، فهو مرة معرفة، ومرة نكرة، وهو حين يكون معرفة يغلب عليه معنى الاختصاص فلا غفور سواه، وإذا جاء نكرة يغلب عليه معنى الشمول للجميع.
أما حركاته الإعرابية فقد جاء مجرورا ًمرة واحدة في القرآن الكريم وقد جاء في سياق تشيع فيه معاني الرقة والقرب كما هو حال المؤمنين عند انتقالهم من دار الفناء إلى دار البقاء فهم حينئذٍ أشد ما يكونون حاجة إلي هذا القرب.
وفي مجيئه مفعولا به معنى آخر وهو أن هذه المغفرة عزيزة غالية ينبغي البحث عنها والسعي الحثيث للحصول عليها.
وحين يكون خبرا لـ "كان" فإن دلالته تكتسب ظلالا أخرى، منها ديمومة هذه المغفرة وعدم تخلفها وبخاصة إذا جعلت "كان" وجملتها خبرا لـ"إن"حيث يجتمع على اسمه "الغفور"حشد من المؤكدات يزيل كل شك من قلب كل عاص، ويرسم له المغفرة على أنها كالشمس، تطلع للجميع.
فإذا وضع بدلا من اسم "الله " الضمير ارتشف المعنى رحيقا آخر، يعود به إلى ما سبق ذكره في الآية من ذنوب ليكون حاضرا أمام العيون عند ذكر المغفرة، وبخاصة الذنوب المستورة، والأسرار المطمورة.
أما وروده مرفوعا فلقد تعددت صوره فهو مرة خبرا لمبتدأ ومرة خبرا لـ"إن" ومرة اسما لـ"كان"الناسخة.
وفي كل ظلال من المعاني لا تكون في الصورة الأخرى، فهو حين يكون خبرا لمبتدأ قد يحمل معنى الإخبار بالصفة لمن يجهلها من الكفار ترغيبا لهم،وهو تارة تبشير لمن هفا وأخطأ مضطرا، وهو تارة تودد للمقربين إذا فعلو خلاف الأولى، وهو قبل كل ذلك وبعده يحمل من الدلالات عظم المغفرة وعمومها، وكمالها.
وحين يفصل بين الاسم والخبر بقوله –من بعدها-، أو- من بعد ذلك – فإن السياق غالبا ما يكون في شأن الذنوب العظيمة التي قد لا يتصورها العقل فيأتي هذا الفاصل لبيان مدى هذه المغفرة وعظمها.
ثم يأتي المبحث الأخير ليبين اعتلاق هذا الاسم الكريم بغيره:
وفيه يظهر جليا الألفة الواضحة بين اسم" الغفور" واسم" الرحيم"،حيث كان جل صحبته معه في عالم القرآن الكريم، وهذه الألفة تعني أن المغفرة بداية العفو والصفح،فهي تمهيد للرحمة وتوطئة للجنة.
والغالب في ورودهما تقديم" الغفور" على" الرحيم" فالمغفرة سلامة والرحمة غنيمة، والسلامة مقدمة على الغنيمة، ولم يتغير ذلك إلا في موضع واحد كان الحديث فيه عن البعث والحساب وهو مقام يستدعي أولا الرحمة.
¥