تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

ـ[عبدالملك السبيعي]ــــــــ[21 - 10 - 08, 08:55 ص]ـ

د محمد وقيع الله

كان فرانسيس فوكاياما واعياً وهو يصوغ نظريته حول نهاية التاريخ، إنه إنما يعيد صياغة نظرية دينية، طالما دأب المفكرون العلمانيون الاوروبيون على إعادة صياغتها، بعد تفريغها من مضامينها اللاهوتية التي شبّعها بها رائدها، الذي تولى مهمة صياغتها الأولى وهو المسمّى بالقديس أوغسطين، الذي عاش بالجزائر وأوروبا، وترك بصماته واضحة على تطور الفكر السياسي الغربي بابتكاره لنظرية "مدينة السماء"، التي تجلب معها السلام والخير الأسمى لبني الإنسان وتصبغهم بروح المسيح عليه السلام، وبها تُختتم صفحات هذه النظرية ذات الطابع الروحي المتفائل.

أثر هذا النمط من التفكير تأثيراً هائلاً على مسار الفلسفة الأوروبية. وترسَّم خطاه عدد من فلاسفة عصر «التنوير» التقدميين الذين أشاروا إلى أن خط التاريخ هو في حركة صعود مستمر لا يتقهقر، تماماً كما ذكر أوغسطين، ولكنهم خالفوه عندما أكدوا أن حركة التاريخ لا تتصاعد إلا بعد حذف مكوِّن سلبي يركض بها إلى الوراء، وهو نفس المكون الذي ذكره أوغسطين كمحرك تقدمي لخط التاريخ، ألا وهو الدين!

وهكذا دعا الفلاسفة التنويريون أمثال "سان سيمون" و"أوجست كونت "و"شتال" إلى حذف الدين واعتماد العقل وحده محركاً تقدمياً لخط التاريخ، وظلت تلك الفكرة سنداً لكل الفكر الليبرالي اللاحق، واستوحتها كذلك الفصائل الثورية لاسيما الماركسية منها.

مصادر فوكاياما:

وكنتُ أظن أن فوكاياما إنما استقى نظريته تلك من تراث الجدل الهيجلي الذي طوّر تراث التنويريين التقدميين، ولكن من دراسة تاريخ فوكاياما نفسه، اتضح إنه تتلمذ في الجامعة على يد مفكرين من مدرسة لي شتراوس الذي قضى عمره يطور تراث أوغستين، لقد تتلمذ فرانسيس فوكاياما على يد البروفيسور الامريكي الشهير «آلان بلوم» ـ أشهر تلاميذ شتراوس ـ وقد دفع بلوم بتلميذه النابغ فوكاياما إلى دراسة آثار المفكر الروسي المتفرنس الأسكندر كوجييف وهو الآخر تلميذ لشتراوس، وكان قد أطلق توقعه بانهيار الاتحاد السوفييتي خلال الأربعينيات، وقال بأن كل الأيديولوجيات ستنحسر ما عدا نمط الحكم الليبرالي الأمريكي، الذي تنبأ له بأن يصبح الأنموذج الأمثل، الذي تتنادى كافة المجتمعات الإنسانية بتمثله واحتذاء خطاه، فأتى فوكاياما ليسمي ذلك بنهاية التاريخ.

هذه الفكرة عن نهاية التاريخ لتراث الفكر الهيجلي من أكثر من وجه. فمن ناحية كان هيجل يقرر في جدله بأن "الصالح" لا ينتج إلا من "الطالح" نفسه، بعد أن يفنى ويتحول على نحو جذري حاسم إلى شيء مضاد له تماماً.

إن هيجل قد رفض أية فكرة للتطور التدريجي، فالتطور لابد أن يكون ثورياً، والوضع الجديد لابد أن يستخلص تماماً من قلب القديم ويحل محله، وبالطبع فهذا ما لم يحدث حين انهار الاتحاد السوفييتي بنمطه الأيديولوجي الشيوعي، فالنظام الليبرالي الذي يبشر به فوكاياما ختاماً للتاريخ لم يستخلص من صلب التراث الماركسي وإنما كان موجوداً وجوداً ذاتياً من قبل.

ومن ناحية ثانية، فإن هيجل ما كان يؤمن كثيراً بالفكر الليبرالي ولا يرى فيه ختاماً للتاريخ، بل كان يؤمن بالدولة التي يسمو سلطانها على كل المصالح الفردية، بل ويسمو على القانون نفسه، ولذلك فقد سمح للدولة أن تخضع الحق للقوة، وأن تكون مشروعيتها فوق مشروعية القانون.

وبالطبع، فهذه ليست أفكار فوكاياما الذي حاول أن يلتصق التصاقاً حميماً بالفلسفة، وأن يكون عالماً سياسياً في نفس الوقت، وأن ينتهز الفرصة التي سبقت بسقوط الاتحاد السوفييتي ليبشر بشيء جديد ليس فيه أصالة الفلسفة، ولا أحكام العلم السياسي، وإنما حتميات الأيديولوجيا التي جاء ينظر لنهايتها، وهذا هو أول مكمن من مكامن التناقضات التي حفلت بها دعوة فوكاياما، فهو إذ يدعو لسيادة الليبرالية إلى الأبد، لا يبدو لنا ليبرالياً، لأنه يلغي الأفكار الأخرى، ويحكم عليها بالفناء، ويقدم المشروعية، ويدعو لممارسة العنف ضدها، ويمهد للسيطرة المطلقة للأيديولوجية الليبرالية بوجهها الرأسمالي لتتحكم بها في الواقع المعاش فقط، وإنما في المستقبل على كل امتداداته، والتصدي بالقمع لكل من يعترض ذلك المصير.

مطبات التاريخ:

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير