9 - و بعد، فهذا عرض مجمل لسورة «الحديد» و منه نرى أنها زاخرة بالحديث عن مظاهر قدرة اللّه- تعالى-، و عن صفاته الجليلة .. و عن دعوة المؤمنين إلى التمسك بتعاليم دينهم، تمسكا يكون مقدما على كل شي ء من زينة هذه الحياة الدنيا، لأن هذا التمسك يجعلهم يعيشون سعداء في دنياهم، و ينالون بسببه الفوز و الفلاح في أخراهم و ذلك فضل اللّه يؤتيه من يشاء و اللّه ذو الفضل العظيم.
و صلى اللّه على سيدنا محمد و على آله و صحبه و سلم الدوحة- قطر مساء الأربعاء 16 من رجب سنة 1406 ه 26/ 3/ 1986 د. محمد سيد طنطاوى التفسير الوسيط للقرآن الكريم، ج 14، ص: 196
التفسير قال اللّه- تعالى-:
[سورة الحديد (57): الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ يُحْيِي وَ يُمِيتُ وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (2) هُوَ الْأَوَّلُ وَ الْآخِرُ وَ الظَّاهِرُ وَ الْباطِنُ وَ هُوَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (3) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَ ما يَخْرُجُ مِنْها وَ ما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَ ما يَعْرُجُ فِيها وَ هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4)
لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ إِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (5) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَ يُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَ هُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (6)
افتتحت سورة «الحديد» بتنزيه اللّه- تعالى- عن كل ما لا يليق به، و بالثناء عليه- تعالى- بما هو أهله، و ببيان جانب من صفاته الجليلة، الدالة على وحدانيته، و قدرته، و عزته، و حكمته، و علمه المحيط بكل شي ء.
افتتحت بقوله- عز و جل-: سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.
و قوله: سَبَّحَ من التسبيح، و أصله الإبعاد عن السوء، من قولهم سبح فلان في الماء، إذا توغل فيه، و سبح الفرس، إذا جرى بعيدا و بسرعة. التفسير الوسيط للقرآن الكريم، ج 14، ص: 197
قالوا: و هذا الفعل سَبَّحَ قد يتعدى بنفسه، كما في قوله- تعالى-: وَ سَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَ أَصِيلًا و قد يتعدى باللام كما هنا. و هي للتأكيد و التبيين أى: سبح للّه لا لغيره.
و المراد بالتسبيح هنا: تنزيه اللّه- تعالى- عن كل مالا يليق بجلاله و كماله.
و المعنى: نزه اللّه- تعالى- و عظمه و خضع له، و انقاد لمشيئته .. جميع ما في السموات و الأرض من كائنات و مخلوقات .. لا يعلمها إلا هو- سبحانه-.
و قد جاء التسبيح تارة بصيغة الفعل الماضي كما في هذه السورة، و كما في سورتي الحشر و الصف، و تارة بصيغة المضارع، كما في سورتي الجمعة و التغابن، و تارة بصيغة الأمر كما في سورة الأعلى، و تارة بصيغة المصدر كما في سورة الإسراء.
جاء التسبيح بهذه الصيغ المتنوعة، للإشعار بأن تسبيح هذه المخلوقات للّه- تعالى- شامل لجميع الأوقات و الأحوال.
قال- تعالى- تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَ الْأَرْضُ وَ مَنْ فِيهِنَّ، وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ، وَ لكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ، إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً «1».
و ختم- سبحانه- الآية الكريمة بقوله: وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، و العزيز: هو الغالب على كل شي ء، إذ العزة معناها: الغلبة على الغير، و منه قوله تعالى-: وَ عَزَّنِي فِي الْخِطابِ أى: غلبني في الخصام.
و في أمثال- العرب: من عزّ بزّ، أى: من غلب غيره تفوق عليه.
و الحكيم مأخوذ من الحكمة، و هي وضع الأمور في مواضعها اللائقة بها.
أى: و هو- سبحانه- الغالب الذي لا يغلبه شي ء- الحكيم الذي يضع الأمور في مواضعها السليمة.
ثم ذكر- سبحانه- صفات أخرى من صفاته الجليلة فقال: لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ يُحْيِي وَ يُمِيتُ، وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ.
أى. له- سبحانه- وحده دون أن يشاركه مشارك، ملك السموات و الأرض، إذ هو- تعالى- المتصرف فيهما، و الخالق لهما، إن شاء أبقاهما و إن شاء أزالهما.
¥