والنفاق عباد الله هو الداء العضال، وهو أن يظهر للمسلمين إيمانه بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وهو في الباطن منسلخ من ذلك كله مكذب به.
وقد هتك الله سبحانه أستار المنافقين، وكشف أسرارهم، وجلّى لعباده أمورهم ليكونوا منها ومن أهلها على حذر.
هم أحسن الناس أجساما وألطفهم بيانا، وأخبثهم قلوبا وأضعفهم جنانا، فهم كالخشب المسنّدة التي لا ثمر لها، قد قلعت من مغارسها فتساندت إلى حافظ يقيمها لئلا يطأها السالكون: وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو فاحذرهم قاتلهم الله أنى يؤفكون [المنافقون:3].
يؤخرون الصلاة عن وقتها، فالصبح عند طلوع الشمس، والعصر عند الغروب، وينقرونها نقر الغراب، إذ هي صلاة الأبدان لا صلاة القلوب، ويلتفتون فيها التفات الثعلب إذ يتقين أنه مطرود وإذا خاصم فجر، وإذا عاهد غدر، وإذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان، ما أكثرهم وهم الأقلون، وما أجهلهم وهم المتعالمون: ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون [التوبة:56].
كره الله طاعاتهم لخبث قلوبهم وفساد نياتهم فثبطهم عنها وأقعدهم، وأبغض قربهم منه وجوارهم لميلهم إلى أعدائه فطردهم عنه وأبعدهم، وحكم عليهم بحكم عدل لا مطمع لهم في الفلاح بعده إلا أن يكونوا من التائبين فقال تعالى: ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين [التوبة:46].
ثم ذكر حكمته في تثبيطهم وإقعادهم وطردهم عن بابه وإبعادهم، وأن ذلك من لطفه بأوليائه، وإسعادهم فقال وهو أحكم الحاكمين: لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالاً ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم والله عليم بالظالمين [التوبة:47].
إن حاكمتهم إلى صريح الوحي وجدتهم عنه نافرين، فلو شهدت حقائقهم لرأيت بينها وبين الهدى أمدا بعيدا وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدوداً [النساء:61].
كثروا والله على ظهر الأرض وفي أجواف القبور، لئلا يستوحش المؤمنون في الطرقات، سمع حذيفة رجلا يقول اللهم أهلك المنافقين فقال: (يا ابن أخي لو هلك المنافقون لاستوحشتم في طرقاتكم قلة السالك).
تالله لقد قطع خوف النفاق قلوب السابقين الأولين، ساء ظنونهم بنفوسهم حتى خشوا أن يكونوا من جملة المنافقين، قال عمر بن الخطاب لحذيفة: (نشدتك بالله هل سماني لك رسول الله منهم؟ قال لا ولا أزكي بعدك أحدا).
وقال ابن أبي مليكة: (أدركت ثلاثين من أصحاب محمد كلهم يخاف النفاق على نفسه، ما منهم أحد يقول إن إيمانه كإيمان جبريل وميكائيل). وذكر عن الحسن البصري (ما أمنه إلا منافق، وما خافه إلا مؤمن) قوله: ينادونهم ألم نكن معكم قالوا بلى ولكنكم فتنتم أنفسكم وتربصتم وارتبتم وغرتكم الأماني حتى جاء أمر الله وغركم بالله الغرور [الحديد:14].
أي ينادي المنافقون المؤمنين، أما كنا في الدار الدنيا، نشهد معكم الجمعات، ونقف معكم بعرفات، ونؤدي معكم سائر الواجبات؟ (قالوا بلى) قد كنتم معنا: ولكنكم فتنتم أنفسكم وارتبتم وغرتكم الأماني.
أي فتنتم أنفسكم باللذات والمعاصي والشهوات، وتربصتم أي أخرتم التوبة، وقال قتادة تربصتم بالحق وأهله: وارتبتم أي برسالة محمد، وبالبعث بعد الموت، وغرتكم الأماني أي قلتم سيغفر لنا: حتى جاء أمر الله أي ما زلتم في هذه الحالة بغير توبة حتى جاءكم الموت وغركم بالله الغرور أي الشيطان، قال قتادة: كانوا على خدعة من الشيطان، والله ما زالوا عليها حتى قذفهم الله في النار.
قال بعض العلماء: إن للباقي بالماضي معتبرا، وللآخر بالأول مزدجرا، والسعيد من لا يغتر بالطمع، ولا يركن إلى الخدع، ومن ذكر المنية نسي الأمنية، ومن أطال الأمل نسي العمل، وغفل عن الأجل.
فمعنى قول المؤمنين للمنافقين إنكم كنتم معنا، أي بالأبدان لا بالقلوب، كنتم معنا بأبدان لا نية لها ولا قلوب معها، وإنما كنتم في حيرة وشك وتربص وغرور. ثم بالغ المؤمنون في توبيخهم وتقريعهم وتقنيطهم، فقالوا: فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا مأواكم النار هي مولاكم وبئس المصير أي لو جاء أحدكم اليوم بملء الأرض ذهبا ومثله معه ليفتدي به من عذاب الله ما قبل منه كما لا تقبل الفدية كذلك ممن أظهر كفره وعناده.
¥