أمخلد أنت في الدنيا؟ قال: لا. قال: هل يزيدون على أن يقتلوك؟ قال: لا. قال: هل يملكون لك جنة أو نارًا؟ قال: لا. قال: فلا تخلع قميص الله عليك فتكون سنة, كلما كره قوم خليفتهم خلعوه أو قتلوه (). وهذا الرأي من ابن عمر ينم عن بعد نظره وتقديره لعواقب الأمور, وقد أبدى استعداده لحمل السلاح للدفاع عن أمير المؤمنين عثمان والتصدي للغوغاء المحاصرين لعثمان في داره, فقد ذكر ابن سعد عن نافع أن ابن عمر لبس الدرع يوم الدار مرتين. ولما قتل عثمان رأى ابن عمر أن الأمة وقعت في محنة, وأن قتل الخليفة بهذه الصورة معصية شؤمها على الأمة خطير, لذا لما عرض عليه الغوغاء الخلافة بعد مقتل عثمان قال: إن لهذا الأمر انتقامًا, والله لا أعترض له, فالتمسوا غيري () , وكان ابن عمر ? كثيرًا ما يركز في نصائحه للعامة على لزوم الجماعة والإعراض عن دماء المسلمين وأموالهم. فكتب له رجل: اكتب إلي بالعلم كله, فكتب إليه: إن العلم كثير, ولكن إن استطعت أن تلقى الله خفيف الظهر من دماء الناس خميص البطن من أموالهم, كافًّا لسانك عن أعراضهم, لازمًا لأمر جماعتهم, فافعل, والسلام ().
ج- استجابته لكل من دعاه إلى خير وتعاونه مع أطراف الخلاف فيما يخدم المصلحة:
ورد أنه كان لا يأتي أميرًا -في زمان الفتنة- إلا صلى خلفه وأدى إليه زكاة ماله () , وقيل له: أتصلي مع هؤلاء ومع هؤلاء وبعضهم يقتل بعضًا؟ فقال: من قال: حي على الصلاة أجبته, ومن قال: حي على الفلاح أجبته, ومن قال: حي على أخيك المسلم وأخذ ماله قلت لا () , وكان ابن عمر يتبوأ مكانة رفيعة في الأمة لصحبته لرسول الله وعلمه وعبادته وزهده, وكان عبد الله بن محيريز -رحمه الله- يراه أمانًا في الأرض حيث قال: والله إن كنت أعد بقاء ابن عمر أمانًا لأهل الأرض ().
د- إن ابن عمر ? لم يدعُ إلى وجوب الخضوع المطلق للسلطان:
أو جواز البيعة القهرية, أو أن في حياته ما يدل على عدم اهتمامه بأمور المسلمين السياسية أو عدم المشاركة فيها, بل على العكس, فهو كان دائمًا أحد الأطراف الرئيسية في المعادلة السياسية في العهد الأموي, وكان أسلوبه هو الحوار واللجوء إلى الشورى, والابتعاد عن الاقتتال, وعندما بدأت الانشقاقات تظهر بين المسلمين اختار أن يكون محايدًا وأن يعتزل الاقتتال, لا أن يعتزل الحياة السياسية, وكان حياده واعتزاله نوعًا من التأمل والتفكر والاطلاع على مواقف الفئات المختلفة والبعد عن المشاركة في سفك دماء بسبب التصارع على السلطة, مع العمل على تهيئة الظروف, والمناخ السياسي الملائم الذي يجمع شمل الأمة, فموقف ابن عمر المحايد كان في البداية بسبب صعوبة تكوين رأي قاطع, فضلاً عن خشية الوقوع في الفتن () , وكان يقول: كففت يدي عن القتال فلم أندم, والمقاتل على الحق أفضل () , وهناك دلائل وحقائق تاريخية تثبت أن ابن عمر, عندما رأى ما يقوم به الحجاج من مظالم عظيمة في الحرم المكي, وسفك الدماء به, والتعدي على حرمته غير رأيه في اعتزال الفتنة, بل وندم على أنه لم يقاتل في جيش علي بن أبي طالب ضد معاوية, الذي كان في نظره خارجًا عن شرعية علي وباغيًا عليه, فقد روى حبيب بن ثابت أن ابن عمر عندما حضرته الوفاة قال: ما أجد في نفسي شيئًا إلا أني لم أقاتل الفئة الباغية مع علي () , وقد مر معنا قول ابن عمر: ما آسى على شيء من هذه الدنيا إلى على ثلاث, ظمأ الهواجر, ومكابدة الليل, وأني لم أقاتل الفئة الباغية التي نزلت بنا () , قال الذهبي: يعني الحجاج () , وقد جاء في كتب التاريخ أن ابن عمر كان يرى
عبد الله بن الزبير أيضًا يندرج تحت مسمى الفئة الباغية, وأنه ندم على عدم قتاله لخروجه على بني أمية وبغيه عليهم ونكثه عهدهم () , وهذه الرواية يؤخذ
عليها عدة أمور:
- أن عبد الله بن عمر لو كان يعتقد بأحقية بني أمية بالخلافة من ابن الزبير في وقت الفتنة لبايعهم, ولكنه لم يفعل, فكيف يندم على عدم قتاله معهم, وهو لم يبايعهم -في الأصل-؟!
- أن أقوال عبد الله بن عمر الأخرى, التي تؤكد أن الفئة الباغية هي بنو أمية ورجالاتهم, خاصة الحجاج, كانت آخر أقواله, وهي ما يعتمد عليه, وأسانيدها صحيحة ().
إن مواقف ابن عمر السابقة تدحض وتبين ضعف الرأي الذي يعتبره رائدًا لمدرسة الخضوع السياسي للسلطان, خاصة أن ابن عمر هو الذي روى عن رسول الله × الحديث: «على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب أو كره إلا أن يؤمر في معصية فلا سمع ولا طاعة» () , والحديث يدل على عدم طاعة الحاكم إذا أمر بمعصية أو خرج عن حكم الله, ولا يمكن لابن عمر أن يخالف حديثًا رواه, وعلى ذلك فإن نظرة ابن عمر تقوم على أن الطاعة للخليفة الشرعي, الذي بويع بالإجماع أو اتفاق الأغلبية, واجبة ما لم يأمر بمعصية, فإن ظلم أو جار فلا طاعة له, بل يجب مناصحته, فإن لم تُجدِ المناصحة يجب -عندئذ- اللجوء إلى المعارضة الصريحة, ولكنه كان يكره اللجوء إلى العنف والاقتتال, لما في ذلك من سفك الدماء وإضعاف لوحدة الجماعة ().
¥