فلا يخفى على من له إلمام بعلوم الشّريعة الإسلاميّة أهميّة ميثاق الإيمان وعلوّ مكانته؛ فهو عهد مقدّس، أخذه الخالق على عباده؛ ليؤمنوا به وحده، ويكفروا بما يعبد من دونه، ويبلّغوا وحيه، ويقيموا دينه في أرضه. وقد تكرّر أخذ الميثاق على العباد، وكان ميثاقهم الأوّل أصل معرفتهم بفاطرهم ووليّهم؛ وهي معرفة أجلى من الشَّمس في رائعة النَّهار ()؛ فالخالق تجلّى لهم وهم على هيئة الذرّ، وكلّمهم قِبَلاً، فعرفوه، وأقرّوا له بالتَّوحيد، وأخذ عهدهم، وأشهد عليهم، وكتب أقدارهم، ثُمَّ أعادهم حيث كانوا، فلا تقوم السَّاعة حتَّى يولد كلّ من أخذ ميثاقه وقد غرس في فطرته أثر تلك المعرفة وذلك الإقرار الَّذي أقرّ به بين يدي ربِّ العالمين. والرُّسل إنّما تذكّر بما في فطرة الخلق من أثر الميثاق الأوّل، وتقرّره، وتفصّله، وتكمّله؛ ولهذا لا يتأبّى على دعوتهم إلاّ صاحب هوى يكابر فطرته، ويناقض يقين قلبه، قال تعالى: ((فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ)) [الرّوم: 30]، وقال: ((وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا)) [النّمل: 14].
ولأهميّة ميثاق الإيمان عني به علماء الشّريعة في عدّة فنون؛ كالتّفسير والحديث والعقيدة، ولكن كان لعلماء العقيدة اهتمام خاص به حتَّى أضحى من أشهر مسائل العقيدة الَّتي تدوّن حتَّى في مختصراتها فضلاً عن المطوّلات. ولا غرابة في هذا الاهتمام؛ فالميثاق وثيق الارتباط بأبواب الإيمان والصّفات والقدر والنبوّات، بيد أنّه غلب على بعض كتب العقيدة السائرة الاقتصار على البحث في ميثاق التَّوحيد دون ميثاق النبوّة والاتِّباع، وكان اقتصارها على ذلك الميثاق قاصرًا على الخلاف في تفسيره وفي حجيّته حتَّى غدا الميثاق لا يعني في أذهان كثير من طلبة العلم سوى هاتين القضيّتين! والواقع أنّ هذا الموضوع العظيم أوسع من ذلك بكثير، وله جوانب مهمّة توزّعتها كتب العقيدة والتّفسير والحديث وغيرها، لم أرها مجموعة في كتاب أو دراسة علميّة؛ لذا عقدت العزم على إفراد الميثاق بدراسة تجمع شتات مسائله، وتعنى بصورته الكاملة الَّتي جاءت بها النّصوص، وتجلّى بعض ما في هذا الميثاق العظيم من دلالات علميّة وإيمانيّة أشغلت عنها القلوب والأذهان باختلاف المتأخّرين في ميثاق التَّوحيد، أو باستبدال ميثاق الإيمان بعهود ما أنزل الله بها من سلطان؛ كاستبدال ميثاق التَّوحيد بميثاق العقل ودلالته، وميثاق النبوّة بميثاق الإيمان بعليّ وولايته، وميثاق الاتِّباع بمعاهدة العارف على التزام شروط وآداب طريقته!
ولا شكّ أنّ إصابة هذا المقصد الشَّريف، والوفاء بما عقدت العزم على القيام به في هذه الدِّراسة رهن بتوفيق الله وعونه؛ فإن أصبته فمن الله وحده، وإن أخطأته فمن نفسي والشَّيطان، وعذري أنّي بذلت جهدي، وقصدت اتّباع دلالة القرآن والسنّة، واقتفاء آثار السَّلف، وأسأل الله تعالى ألاّ يحرمني أجر القصد والاجتهاد.
خطّة البحث:
يتكوّن هذا البحث من المقدّمة والخاتمة والمباحث الآتية: ـ
المبحث الأوّل: معنى الإيمان والميثاق.
المبحث الثّاني: ميثاق التَّوحيد.
المبحث الثّالث: فطريّة التَّوحيد.
المبحث الرّابع: ميثاق النبوّة.
المبحث الخامس: ميثاق الاتِّباع.
المبحث السَّادس: دلالة ميثاق الإيمان.
المبحث السَّابع: صدق النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وربّانيّة كتابه.
المبحث الثَّامن: أفضليّة النَّبيّ صلى الله عليه وسلم وأولياته.
المبحث التَّاسع: عموم رسالة سيّد المرسلين.
وقد التزمت ـ قدر الإمكان ـ بقواعد البحث العلميّ في دراسة هذه المباحث وما تفرّع عنها من مسائل؛ فاستقرأت نصوص الميثاق ودرستها أوَّلاً، ثُمَّ جمعت مادّة البحث من المصادر المعتمدة،وحرصت على تقديمه بأسلوب علميّ ميسّر، ووثّقته وفق الأعراف العلميّة المتّبعة في الدِّراسات الشرعيّة، والله الموفّق والهادي إلى سواء السَّبيل.
اضغط هنا لتحميل العدد ( http://www.world-dialogue.org/dalhaq/232.pdf)