ذكر ابن كثير هذا الحديث في تفسير قوله تعالى: {وَلَوْلا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً} الآيات. ثم قال: أسنده البغوي من رواية زكريا بن منظور، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره. ورواه الطبراني من طريق زمعة بن صالح، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد، عن النبي ?:" لو عدلت الدنيا عند الله جناح بعوضة، ما أعطى كافراً منها شيءاً".
قال مقيِّاه ـ عفا الله عنه ـ: لا يخفى أن مراد الحافظ ابن كثير ـ رحمه الله ـ بما ذكرناه عنه، أن كلتا الطريقتين ضعيفة، إلا أن كل واحدة منهما تعتضد بالأخرى، فيصلح المجموع للاحتجاج، كما تقرر في علم الحديث من أن الطرق الضعيفة المعتبر بها يشد بعضها بعضاً، فتصلح للاحتجاج.
لا تخاصم بواحد أهل بيت فضعيفان يغلبان قوياً
لأن زكريا بن منظور بن ثعلبة القُرظي، وزمعة بن صالح الجندي، كلاهما ضعيف، وإنما روى مسلم عن زمعة مقروناً بغيره لا مستقلاً بالرواية، كما بيّنه الحافظ ابن حجر في التقريب.
الثالث: أن معنى {نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ} أي نعطيهم الغرض الذي عملوا من أجله في الدنيا، كالذي قاتل ليُقال: جريء، والذي قرأ ليُقال: قارئ والذي تصدق ليُقال: جواد، فقد قيل لهم ذلك، وهو المراد بتوفيتهم أعمالهم على هذا الوجه.
ويدل له الحديث الذي رواه أبو هريرة مرفوعاً في المجاهد والقارئ والمتصدق؛ إنه يقال لكل واحد منهم: إنما عملت ليُقال، فقد قيل. أخرجه الترمذي مطوَّلاً، وأصله عند مسلم كما قاله ابن حجر، ورواه أيضاً ابن جرير، وقد استشهد معاوية رضي الله عنه لصحة حديث أبي هريرة هذا، بقوله تعالى: {نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ} وهو تفسير منهم رضي الله عنهم لهذه الآية بما يدل لهذا الوجه الثالث.
الرابع: أن المراد بالآية المنافقون الذين يخرجون للجهاد، لا يريدون وجه الله، وإنما يريدون الغنائم فإنهم يُقسم لهم فيها في الدنيا ولا حظَّ لهم من جهادهم في الآخرة، والقسم لهم منهم هو توفيتهم أعمالهم على هذا القول. والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى: {فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ} الآية. هذه الآية الكريمة ندل على أن هذا الابن من أهل نوح عليه السلام، وقد ذكر تعالى ما يدل على خلاف ذلك، حيث قال: {يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ}.
والجواب: أن معنى قوله: {ليس من أهلك}، أي: الموعود بنجاتهم في قوله: {لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ}؛ لأنه كافر لا مؤمن.
وقول نوح: {إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} يظنه مسلماً من جملة المسلمين الناجين كما يُشير إليه قوله تعالى: {فلا تسألني ما ليس لك به علم}.
وقد شهد الله أنه ابنه حيث قال: {وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ} إلا أنه أخبره بأن هذا الابن عملٌ غير صالح؛ لكفره، فليس من الأهل الموعود بنجاتهم، وإن كان من جملة الأهل نسباً.
قوله تعالى: {وَلَقَدْ جَاءتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُواْ سَلاَمًا قَالَ سَلاَمٌ .. } الآية.
هذه الآية الكريمة تدل على أن إبراهيم رد السلام على الملائكة. وقد جاء في سورة الحجر ما يُوهم أنهم لما سلموا عليه أجابهم بأنه وجلٌ منهم، من غير رد السلام، وذلك قوله تعالى: {فَقَالُواْ سَلامًا قَالَ إِنَّا مِنكُمْ وَجِلُونَ (52) سورة الحجر}.
والجواب ظاهر: وهو أن إبراهيم أجابهم بكلا الأمرين: رد السلام والإخبار بوجله منهم. فذكر أحدهما في هود،والآخر في الحجر. ويدل لذلك ذكره تعالى ما يدل عليهما معاً في سورة الذاريات في قوله: {فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ (25) سورة الذاريات} لأن قوله: {مُّنكَرُونَ} يدل على وجله منهم.ويوضح ذلك قوله تعالى: {فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً} في هود والذاريات، مع أن في كل منهم: {قَالَ سَلَامٌ}.
قوله تعالى: {خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض} الآية.
تقدم وجه الجمع بينه وبين الآيات التي يُظَنّ تعارضهما معه، كقوله تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} في سورة الأنعام، وسيأتي له إن شاء الله زيادة إيضاح في سورة النبأ.
¥