وأما بالنسبة إلى تعلُّق الإرادتين بعبادة الإنس والجن لله تعالى، فالإرادة الشرعية أعمُّ مطلقاً، والإرادة الكونية أخصُّ مطلقاً؛ لأن كل فرد من أفراد الجن والإنس أراد الله منه العبادة شرعاً لم يُردها من كُلّهم كوناً وقدراً فتعمُّ الإرادة الشريعة عبادة جميع الثقليْن، وتختصُّ الإرادة الكونية بعبادة السعداء منهم، كما قدَّمنا من أن الدعوة عامة، والتوفيق خاص كما بينه تعالى بقوله: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} فصرَّح بأنه يدعو الكل، ويهدي من شاء منهم.
وليست النسبة بين الإرادة الشرعية والقدرية العموم والخصوص من وجه؛ بل هي العموم والخصوص المُطلق،كما بينا، إلا أن إحداهما أعمُّ مطلقاً من الأخرى باعتبار، والثانية أعمُّ مطلقاً باعتبار آخر، كما بينا والعلم عند الله تعالى.
سورة يوسف
قوله تعالى: {وَجَاء بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ .. } الآية.
هذه الآية يدل ظاهرها على أن بعض الأنبياء ربما بُعث من البادية. وقد جاء في موضع آخر ما يدلُ على خلاف ذلك، وهو قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِم مِّنْ أَهْلِ الْقُرَى}.
وأجبي عن هذا بأجوبة:
منها: أن يعقوب نُبئ من الحضر، ثم انتقل بعد ذلك إلى البادية.
ومنها: أن المراد بالبدو نزول موضع اسمه " بدا" هو المذكور في قوله جميل أو كثير:
وأنت الذي حبب شغباً إلى بدا إليّ وأوطاني بلادٌ سواهما
حللت بهذا مرة ثم مرة بهذا فطاب الواديان كلاهما
وهذا القول مروي عن ابن عباس. ولا يخفى بعد هذا القول، كما نبه عليه الألوسي في تفسيره.
ومنها: أن البدو الذي جاءوا منه مُستند للحضر، فهو في حكمه والله تعالى أعلم.
سورة الرعد
قوله تعالى: {إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ ... }.
هذه الآية الكريمة فيها التصريح بأن لكل قوم هادياً. وقد جاء في آيات أُخر ما يدلُ على أن بعض الأقوام لم يكن لهم هادٍ، سواء فسّرنا الهدى بمعناه الخاص أو بمعناه العام.
فمن الآيات الدالة على أن بعض الناس لم يكن لهم هاد بالمعنى الخاص؛ قوله تعالى: {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ} فهؤلاء المضلون لم يهديهم هاد الهدى الخاص، الذي هو التوفيق لما يرضي الله. ونظيرها قوله: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ}، وقوله: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} وقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ} إلى غير ذلك من الآيات.
ومن الآيات الدالة على أن بعض الأقوام لم يكن لهم هاد بالمعنى العام، الذي هو إبانة الطريق، قوله تعالى: {{لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ (6) سورة يس} بناء على التحقيق من أن " ما " نافية لا موصولة، وقوله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ .. } الآية.
فالذين ماتوا في هذه الفترة، لم يكن لهم هادٍ بالمعنى الأعمِّ أيضاً.
والجواب عن هذا من أربعة أوجه.
الأول: أن معنى قوله: {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} أي داع يدعوهم ويُرشدهم، إما إلى خير الأنبياء، وإما إلى شر كالشياطين. أي وأنت يا رسول الله منذر هادٍ إلى كل خير. وهذا القول مرويٌّ عن ابن عباس، من طريق علي بن أبي طلحة، وقد جاء في القرآن استعمال الهدى في الإرشاد إلى الشر أيضاً، كقوله تعالى: {كُتب عليه أنه من تولاه فأنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير} وقوله تعالى: {فاهدوهم إلى صراط الجحيم}، وقوله تعالى: {ولا ليهديهم طريقاً إلا طريق جهنم} كما جاء في القرآن أيضاً إطلاق الإمام على الداعي إلى الشر، في قوله: {وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار .. } الآية.
الثاني: أن معنى الآية: أنت يامحمد ? منذر، وأنا هادي كل قوم ويُروى هذا عن ابن عباس من طريق العوفي، وعن محمد وسعيد بن جبير والضحاك وغير واحد. قاله ابن كثير.
وعلى هذا القول، فقوله: {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ}، يعني به نفسه جل وعلا. ونظيره في القرآن قوله تعالى: {وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} يعني نفسه، كما قاله قتادة. ونظيره من كلام العرب قول قتادة بن سلمة الحنفي:
¥