"فالحرية السياسية غير موجودة للأسف في الدول المعاصرة، كما أنه لا يسمح للمثقفين العرب بأن يكتبوا بحرية في صحف أوطانهم، وأقصد هنا الكتابة العلمية لا الكتابة السياسية. وإذا كتبت شيئا عن هذه الموضوعات فلا بد أن تراقب نفسك؛ لذلك لا يمكن أن تقول كل ما يجب أن يقال، ولا يمكن أن نطرح بعض المسائل بسبب الرقابة وهي أحيانا ذاتية. أنا مثلا كأستاذ وباحث أود أن أطرح بعض الأسئلة، لكني لا أستطيع أن أفعل ذلك كما يقتضي العلم، لأني أريد أن أبقى في اتصال مع العرب، كي نتقدم في حل بعض المشاكل دون أن تنقطع الصلة بين الباحث وسائر الناس. لهذا أقبل بالرغم من أني أتمتع بكل حريتي هنا كأستاذ في السوربون أن أفرض على نفسي هذا النوع من الرقابة؛ لأني أفهم أن الباحث لا يحق له أن يجرح نفوس الذين لا يزالون غير مستعدين ليفهموا ويدركوا بعض المشاكل التي يمكن أن تطرح. هذه الأمور كلها تجعل الفكر العربي لا يقدم على طرح المشاكل التي لا بد من طرحها في هذه الفترة، وعلى التخلي عن هذه المواقف الإديولوجية التي يفرضها نوع من الإجماع الاجتماعي والسياسي السائد عندنا. هذه هي العراقيل وهي – كما ترى – نفسية وابستمولوجية. هناك محرمات".
ومن الجدير بالذكر أن البروفيسور أركون أدلى بهذا التصريح في مقابلة أجرتها معه مجلة الوطن العربي (العدد: 385، بتاريخ: 29 يونيو إلى 5 يوليوز 1984 – ص: 55)، وكانت المقابلة بعنوان: "محمد أركون يتهم: غارودي يجهل الإسلام"؛ فقد كان البروفيسور أركون مستاء من إسلام رجاء غارودي!! واتهمه بأن سبب إسلامه هو جهله بالإسلام!!
نعم إن البروفيسور أركون لا يمكن أن يظهر وجهه الغربي للعالم الإسلامي، رَغَبا ورَهَبا!! رَغَبا في بدل زيارة الجامعات وفي تعويضات المؤتمرات والندوات التي تقيمها مراكز البحوث والجامعات، ورَهَبا من ردات فعل أئمة المسلمين وعامتهم إذا اطلعوا على وجهه الغربي. ومن هنا فقد اتخذ الطريق الأسهل: أن يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه.
من آيات هذا التهريج التنكري الذي ينتهجه البروفيسور أركون قصته مع فضيلة الشيخ الدكتور محمد بريش؛ فقد كتب د. محمد بريش دراسة قيمة عن فكر البروفيسور أركون، ونشرها في مجلة الهدى (مجلة ثقافية إسلامية كانت تصدر بالمغرب)، وقد عبر د. محمد بريش عن هدفه من نشر الدراسة بقوله (مجلة الهدى – المصدر السابق - ص: 32): "نشير إلى أننا حين أقدمنا على التعريف بمحمد أركون لم نفعل ذلك للقدح فيه ولا لتكفيره أو تجريحه، وإنما كانت غايتنا الأساسية إطلاع جمهور الإسلاميين ومثقفيهم على الخصوص، الذين لا يتبعون إصدارات المفكرين العرب باللغات الأجنبية، ولا الصحف والمجلات ذات النزعة اليسارية أو "التقدمية"، على صفحة من صفحات ذلك التيار الجديد الراغب في قلب الدين رأسا على عقب وإعادة النظر في بناياته كلها والإتيان عليها من القواعد تحت شعار الاستفادة من العلوم الإنسانية الحديثة ومناهج البحث المعاصر، والذي يريد أن يفرض علينا تجديدا غريبا في الدين يتجلى في ممارسة علمانية للإسلام ... آملين أن نكون قد أفدنا القارئ المسلم على وجه العموم، وطالب أو أستاذ الفكر الإسلامي والدراسات الإسلامية على وجه الخصوص".
وقد آتى نشر هذه الدراسة أكله، وكان من نتائجها أن وعى كثير من المثقفين والعامة بالوجه الغربي للبروفيسور أركون، ونتجت عن ذلك ردة فعل مستنكرة في الأوساط الإسلامية، وصلت أصداؤها إلى البروفيسور أركون، فخاف من أن يتطور الأمر أكثر؛ فسارع بكتابة رسالة إلى د. محمد بريش، يعتذر فيها ويتنصل من ما كتب من ما يسيء إلى الإسلام والمسلمين، ويقول إنه مستعد للتراجع عنه!! وكان د. محمد بريش في قمة الورع والالتزام بالمنهجية العلمية والأخلاقية حين توقف تأثما عن نشر سائر حلقات هذه الدراسة، مع الأسف الشديد. ذلك أنه قد فهم من رسالة البروفيسور أركون أنه قد تاب وآمن وتراجع عن وجهه الغربي، والإسلام يجب ما قبله؛ فلم يستسغ د. محمد بريش أن يمضي في نقد فكر تراجع صاحبه عنه. كما يقول د. محمد بريش (على هذا الرابط ( http://www.alukah.net/Web/brich/0/1375/))
" وبدأ نشر المقالات في مجلة "الهدى" التي كنت أرأس تحريرها على مدى خمسة أعداد، ثم توقف لسببين:
الأول: كاتبني الأستاذ الفاضل [يعني: البروفيسور أركون] راغبا في الاطلاع على المقالات المنشورة، وأنه مستعد للتراجع عن كل ما يمكن أن يسيء إلى الإسلام أو يفهم منه ذلك. فما كان لي أن أنسب له شيئا من الفكر لم يعد يتبناه، فليس لذلك من فائدة في بلورة الفكر وتطوير النقد ... ".
لكن الواقع أثبت مع الأسف أن البروفيسور أركون لم يزل كما كان، وأن هذا التراجع ليس إلا مجرد فصل من مسرحية ذي الوجهين الذي ظل يمثلها هنا وهناك.
ولعل هذا هو السر في اختلاف الناس في تحديد منهج وخط البروفيسور أركون؛ فمنهم من ينخدع بوجهه الذي يأتي به المسلمين فيحسبه مؤمنا غيورا، ومنهم من اطلع على وجهه الآخر الذي يأتي به الغربيين.
فما أبعد البروفيسور أركون من الإمام مالك الذي امتحنه والي المدينة بعد أن نهاه عن التحديث بحديث، ثم دس إليه من يسأله عنه فحدث به على رؤوس الناس!!
وما أبعده من الإمام أحمد الذي امتحن المحنة المشهورة، فلم يجب؛ لأن عقائد العامة كانت معلقة في عنقه!!
بل ما أبعده – وهو من أدعياء العقلانية - من الفيلسوف اليوناني سقراط الذي أقدم على الموت طائعا، أنفة من أن يفر أو يخالف مبادئه. كما قال أمير الشعراء أحمد شوقي:
سُقراطُ أَعطى الكَأسَ وَهيَ مَنِيَّةٌ=شَفَتَيْ مُحِبٍّ يَشتَهي التقبيلا
عَرَضوا الحَياةَ عَلَيهِ وَهيَ غَباوَةٌ=فَأَبى وَآثَرَ أَن يَموتَ نَبيلا
إِنَّ الشجاعَةَ في القُلوبِ كَثيرَةٌ=وَوَجَدتُ شُجعانَ العُقولِ قَليلا
¥