- ولا يقتضي الأمر أكثر من الرجوع إلى التفسير الكبير ليتبين القارئ الكريم أمرين: الأول، أن الألفاظ التي زعم الأنبا بيشوي أنها من كلام الفخر الرازي لا توجد في كلامه قط. الثاني، أن الفخر الرازي أورد الأقوال في شأن قوله تعالى {ولكن شبه لهم} وردَّ عليها، واختار أصحها في نظره، وأنه لما ناقش كيفية إلقاء شبه المسيح عليه السلام على الشخص الذي صلبه اليهود والرومان ذكر أربعة أقوال في شرح تلك الكيفية وانتهى إلى أن «الله أعلم بحقائق الأمور». ولم يرد في كلامه في أي موضع تعبير (إن هذا يعتبر ظلمًا) ولا تعبير (أن هذا يعني أن الله غير قادر على أن ينجيه). [تفسير الفخر الرازي، ج11، ط المطبعة المصرية، القاهرة 1938، ص 99. ورقم الآية من سورة النساء هو 157 وليس 156 كما ذكره الأنبا بيشوي].
وأنا أترك للقارئ أن يحكم على هذا الصنيع ومدى صلته بالعلم، الذي من بركته عندنا الدقة في نسبة كل قول إلى قائله، ومدى صلته بواجب الأحبار والرهبان في حفظ أمانة الكلمة وتأديتها إلى الذين يتحدثون إليهم.
- المسألة الثانية: أن الأنبا بيشوي يحكي قصة حوار بينه وبين الملحق العسكري المصري في منزل سفير مصر في قبرص (لم يذكر اسم السفير ولا اسم الملحق العسكري) وينتهي منها إلى أن الملحق العسكري وافقه على تفسيره لقول الله تعالى {لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح عيسى بن مريم قل فمن يملك من الله شيئًا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعًا ولله ملك السموات والأرض وما بينهما يخلق ما يشاء والله على كل شيء قدير} [المائدة:17].
ودون دخول في تفصيلات الحوار الذي ذكره الأنبا بيشوي، أقول إنه حوار لا معنى له ولا جدوى منه، ودار ـ إن صحت الرواية ـ بينه وهو غير مختص ولا متخصص وبين رجال مثله غير مختصين ولا متخصصين، فكان حاصله صفرًا، لا يقتضي تعقيبًا ولا يستحق ردًا. لكن المهم في الأمر كله أن محاولة إعادة فهم القرآن الكريم على خلاف ما فهم منه على مدى التاريخ الإسلامي كله محاولةٌ مآلها الإخفاق، ونتيجتها إثارة الفتنة بين الأقباط والمسلمين إذا ردد الأقباط فهم الأنبا بيشوي وفهم الملحق العسكري!! وقد كان حريًا بالأنبا بيشوي ألا يقتحم هذا المجال أصلا فليس هو من رجاله ولا أهله. ومما يحسُنُ بالمرء ألا يهرف بما لا يعرف وبخاصةٍ إذا ترتب على ذلك أن تحدث وقيعة بين أبناء الوطن الواحد يحمل وزرها الذين يجادلون فيما ليس لهم به علم.
- المسألة الثالثة: أن الأنبا بيشوي يتساءل عما إذا كانت الآية الكريمة (وصفها من عندي) «قيلت أثناء بعثة نبي الإسلام، أم أضيفت أثناء تجميع عثمان بن عفان للقرآن الشفوي وجعله تحريري (؟)، لمجرد وضع شيء ضد النصارى» ويتساءل قبل ذلك عما إذا «كانت قد قيلت وقتما قال نبي الإسلام القرآن أم أنها أضيفت فيما بعد، في زمن متأخر».
والتساؤلان غير مشروعين، وفي غير محلهما، ووجها إلى من لا شأن له في الجواب عليهما.
فالنبي ? لم (يقل) القرآن, إنما تنزل عليه القرآن من لدن عليم حكيم. وأنا لا أريد من نيافة الأنبا، ولا من أي مسيحي، أن يقر لي بنبوة محمد ? لأنه إن فعل ذلك خرج من عقيدته الحالية، وليس هذا مطلبي. لكنني أتوقع منه أن لا يهين كتابنا الكريم (القرآن) وينسبه إلى مخلوق، ولو كان هو النبي نفسه، لأن في ذلك إهانةً لا تقبل، ومساسًا لا يحتمل بالإسلام نفسه.
والخليفة الثالث، عثمان بن عفان، لم يحوّل القرآن من شفهي إلى تحريري. بل كان القرآن الكريم يكتب فور نزوله على النبي ? آية آية، وقطعة قطعة، وسورة سورة، وهذا كله مبسوط في كتب علوم القرآن التي لو طالعها أي ملمٍ بالقراءة والكتابة لم يقل مثل الكلام الذي كتبه الأنبا بيشوي في بحثه.
وأخشى ما أخشاه أن يفهم المسلمون الذين يقرأون كلام الأنبا بيشوي أن المقصود هو التسوية بين النص القرآني المتواتر بلا خلاف وبين نصوص دينية أخرى لم تدون إلا بعد أكثر من مئتي سنة من انتهاء عصر الأنبياء المنسوبة إليهم.
ومثل هذه المحاولة تعني التشكيك في تواتر القرآن. والتساؤل عما إذا كانت آية ما أضيفت إلى القرآن الكريم «في زمن متأخر» تكذيب لا يقبله مسلم، بقول الله تعالى {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} [الحجر:9].
¥