أولاً-إذا كنا قررنا في المبحث أن المعرفة أو العلم في جميع المجالات ضرورة شرعية ومنهجية ومعلم هام للذين يسعون لإحياء الأمة والتمكين لدين الله في الأرض فإننا نؤكد علي أن المعرفة المطلوبة ليست المعرفة التي تدعو صاحبها إلي الإخلاد في الأرض وعدم التحرك لنصرة الدين فهذه معرفة باردة لا نريدها ولا نقصدها وهي شغلة الفارغين يقول الأستاذ سيد قطب رحمه الله تعالي حول هذا المعني " إن فقه الحركة يختلف اختلافاً أساسيا عن فقه الأوراق،مع استمداده أصلاً وقيامه على النصوص التي يقوم عليها ويستمد منها فقه الأوراق، والتجارب تجزم بأن الذين لا يند مجون فى الحركة بهذا الدين لا يفقهونه مهما تفرغوا لدراسته فى الكتب لأنها دراسة باردة، وأن اللمحات الكاشفة فى هذا الدين إنما تتجلى للمتحركين به حركة جهادية لتقريره في حياة الناس ولا تتجلى للمستغرقين في الكتب العاكفين على الأوراق) 91.
ويقول الشاطبي رحمه الله (والعلم لا يراد به أصلاً إلا العمل، وكل علم لا يفيد عملاً، ولا يتوقف عليه حفظ مقاصد الشريعة، فليس في الشرع ما يدل على استحسانه، والعلم المعتبر شرعاً، الذي مدح الله تعالى ورسوله أهله، على الإطلاق، هو العلم الباعث على العمل، الذي لا يخلِّي صاحبه جارياً مع هداه كيفما كان. بل هو المقيد صاحبه بمقتضاه، الحامل له على قوانينه طوعاً أو كرهاً. وعندئذ يصير العلم وصفاً من الأوصاف الثابتة لصاحبه، يأبى للعالم أن يخالفه؛ لأن ما صار كالوصف الثابت لا ينصرف صاحبه إلا على وفقه اعتياداً وإن تخلّف فإنما يكون تخلّفه لعنادٍ أو غفلة.92
وليس عالماً ذاك الذي لم يعمل بعلمه، ولا يستحق وصف التكريم هذا، فعن علي رضي الله عنه قال: 'يا حملة العلم: اعملوا به، فإن العالم من علم ثم عمل، ووافق علمه عمله، وسيكون أقوام يحملون العلم، لا يجاوز تراقيهم، تخالف سريرتهم علانيتهم، ويخالف علمهم عملهم، يقعدون حِلقاً، يباهي بعضهم بعضاً؛ حتى إن الرجل ليغضب على جليسه أن يجلس إلى غيره ويدعه، أولئك لا تصعد أعمالهم إلى الله عز وجل'.
وقال الحسن البصري رحمه الله: 'العالم الذي وافق علمه عمله، ومن خالف علمه عمله فذلك راوية سمع شيئاً فقاله'.
وقال الثوري:'العلماء إذا علموا عملوا، فإذا عملوا شُغِلوا ... '. وقال:'العلم يهتف بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل'93
فالذين لا يعملون بعلمهم، ولا يتسق سلوكهم مع عملهم، فضلاً عن أن يكونوا من الراسخين في العلم، وإنما هم رواة أخبار، وحفظة أسفار، والفقه فيما رووه أمر آخر وراء هذا، أو هم ممن غلب عليهم الهوى فغطّى على قلوبهم.) 94
ثانياً-أن المعرفة المطلوبة هي لجميع الأفراد في العمل الإسلامي كل بحسبه ووفق قدراته وذلك من أجل أن تتكون "البصيرة"لدي العاملين لدين،وهي الصفة المطلوبة للعاملين سواء كانوا رؤوس أو اتباعا، يقول تعالى فى سورة يوسف (قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين) 95)
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد: هذه الدعوة التي أدعو إليها والطريقة التي أنا عليها من الدعاء إلى توحيد الله وإخلاص العبادة له دون الآلهة والأوثان والانتهاء إلى طاعته وترك معصيته {سبيلي} وطريقتي ودعوتي أدعو إلى الله وحده لا شريك له {على بصيرة} بذلك ويقين علم مني به أنا ويدعو إليه على بصيرة أيضا من اتبعني وصدقني وآمن بي.
يقول الهروى رحمه الله في المنازل في الكلام على نفس الآية:- يريد أن تصل باستدلالك إلى أعلى درجات العلم وهى البصيرة التي تكون نسبة المعلوم فيها إلى القلب كنسبة المرئي إلى البصر، وهذه هي الخصيصة التي اختص بها الصحابة عن سائر الأمة، وهى أعلى درجات العلماء، قال تعالى (قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني) أي أنا واتباعى على بصيرة، ومن اتبعني كذلك يدعو إلى الله على بصيرة، وعلى القولين:-
فالآية تدل على أن أتباعه هم أهل البصائر الداعون إلى الله تعالى، ومن ليس منهم فليس من أتباعه على الحقيقة والموافقة وإن كان أتباعه على الانتساب والدعوى) 96.
ثالثاً:-انه من الضرورة لحل مشكلات الأمة الإسلامية وحل المغاليق التي تعترض طريق العمل الإسلامي أن يكون عندنا علم ووعي،فأول طرق الحل هي "تحديد المشكلة"وهذا لا يتأتي إلا بمعرفتنا بالمشكلة وظروفها وهذا يتطلب وعي وإحاطة بالواقع المعاش.
رابعاً:-هذا المبحث جزء من عدة مباحث تكتب إن شاء الله في موضوع فقه التمكين،وذلك أن طريق التمكين وإحياء الأمة لابد فيه من:-
[تصحيح المفاهيم- إرادة التغيير- قوة الشعور الديني- المعرفة- ترسيخ القيم- القدرة- وعي بالواقع- الحصافة وحسن التدبير].
أسال الله بفضله ومنته أن أكون قد وفقت في عرض الفكرة وأن أكون قد وفقت في توضيحها، وأسال الله أن يجعل هذا المبحث يشير إلي إحدي المعالم الهامة في طريق إحياء الأمة والتمكين لدين الله عز وجل،وأسأله تعالي أن يوفقني في إنهاء باقي العناصر الأخرى المتعلقة بفقه التمكين وإحياء الأمة، وما ذلك علي الله بعزيز.
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
ثبت المراجع:-
91 - طريق الدعوة في ظلال القرآن أحمد فائز.
92 - الموافقات1/ 61 وما بعدها.
93 - الموافقات 1/ 75 - 76.
94 - مجلة البيان العدد1 مقالة للأستاذ جمعة ضميرية" لما تقولون ما لا تفعلون".
95 - [سورة يوسف: 108].
96 - فتح المجيد شرح كتاب التوحيد طبعة دار الفتح ص77.
¥