[العدول في حروف المعاني مظهر من مظاهر الإعجاز البياني في القرآن الكريم "2"]
ـ[د عبدالله الهتاري]ــــــــ[17 Apr 2007, 08:46 ص]ـ
3. العدول عن (في) إلى (الباء):
من ذلك قوله تعالى على لسان الملأ من قوم نوح في خطاب نبيهم: ?قَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ * قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ? [لأعراف: 60 - 61].
فقد جاء حرف الجر (في) في كلام قوم نوح لنبيهم بقولهم: "إنا لنراك في ضلال مبين"، وهذا الحرف يفيد الظرفية، فكأن الضلال أصبح ظرفاً له، وهو مظروف فيه، يحيط به من كل مكان. فردَّ عليهم بقوله: "ليس بي ضلالة"، فعدل في جوابه لهم إلى (الباء)، فلم يوافق جوابه قولهم فيكون (لست في ضلال).
وفي هذا السياق نجد أن جواب نوح عليه السلام، قد تضمن عدولين، عدولاً نحوياً متمثلاً في العدول عن حرف الجر (في) إلى (الباء)، وعدولاً صرفياً متمثلاً في العدول عن المصدر "ضلال" إلى اسم المرة "ضلالة"، وذلك أن اقتران جوابه بالباء فيه إمعان في نفي لصوق أدنى ضلالة به، فضلاً عن انغماسه في الضلال أصلاً، وهذا يؤكده مجيء اسم المرة "ضلالة".
لذا ناسب مجيء جوابه لهم بالباء عدولاً عن حرف الوعاء "مبالغة في نفي اقترابه من الضلال وتلبسه به" ()، ?قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ? [لأعراف: 61].
وهو ما يرد بكثرة في سياق خطاب الأنبياء لأقوامهم من ذلك قول قوم هود لنبيهم:
?إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ? [الأعراف: 66]، وجاء ردُّه عليهم: ?قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ? [الأعراف: 67].
4. العدول عن (في) إلى (من):
ومنه قوله تعالى: ?وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً … وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُواْ الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً? [النساء: 5 - 8].
فقال: ابتداء "وارزقوهم فيها" فأتى بحرف الجر (في) ثم عدل عنه إلى حرف الجر (منه)، فقال: "فارزقوهم منه".
وسر هذا أن الآية الأولى هي خطاب للأولياء في أموال اليتامى بدليل قوله: "وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولاً معروفاً، وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم …"، ففي قوله: "فارزقوهم فيها" دعوة إلى استثمار أموال اليتامى وأن ينفق عليهم من أرباح المال لا من أصله، وهو ما أشار إليه الزمخشري بقوله (): "وارزقوهم فيها" واجعلوها مكاناً لرزقهم بأن تتجروا فيها وتتربحوا حتى يكون نفقتهم من الأرباح لا من صلب المال، فلا يأكلها الإنفاق".
وهذا المعنى ناشئ من تركيب الفعل (فارزقوهم) مع حرف الظرفية (في)، فجعل الأموال ظرفاً للرزق ومكاناً له، في حين عدل عن (في) إلى (من) بعد ذلك في قوله:?وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُواْ الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ? [النساء: 8]؛ لأن المدفوع لذوي القربى واليتامى والمساكين حال حضورهم القسمة هو من أصل مال التركة، فجاءت (من) التبعيضية للدلالة على إعطائهم من بعض الميراث على سبيل المواساة والإحسان.
5. العدول عن (من) إلى (في):
من ذلك قوله تعالى: "وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ … وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَى هَؤُلاء وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ? [النحل: 84 - 89]. فعدَّى فعل (البعث) بـ (من) في قوله: "يوم نبعث من كل أمة"، ثم عدل عنه إلى (في) بقوله: "يوم نبعث في كل أمة" وهنا ينشأ السؤال الآتي: لماذا لم يطرد السياق فيكون: "يوم نبعث من كل أمة شهيداً، … ويوم نبعث من كل أمة شهيداً عليهم …"؟
¥