تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

يشبّه الشاعر أشجار المدينة الدائمة الخضرة بأعمدة من رخام، و في الوقت نفسه، يلجأ إلى الاستعارة جاعلاً الليل شخصاً قلقاً لا يعرف للنوم طريقاً، بل و يحاول أن يُطلعَ من أحداقه (سواد العين) الفجرَ (كناية عن النور) و كأنّه لا يستطيع.فهو في المقطع الأوّل يوصل إلينا رسالة مفادها: أنّ المدينة رغم مظاهر الحضارة و الترف التي تظللها إلّا أنّ أهلها غير مرتاحين، إذ الليل قلق لا ينام، و يبحثون عن النور بصعوبة و لا يجدونه، فالمقطع الأوّل بما فيه من طباق (ليل – فجر) و كنايات و استعارة و تشبيه يجعل القارئ أمام نصٍ غنيٍ بالإشارات و المعاني.

يشبّه الشاعر السماء في المقطع الثاني حال غروب الشمس بالحقل الذي يمصّ الماء، تشبيه جديد يطرق أبواب الناظر في القصيدة دون أن يكلّ أو يملّ من أن يعرف مدى براعة التشبيه، فالسماء عندما لا تمطر- رغم انفها- تُشْبِهُ الحقل الذي لا يَدُعُ ماءً إلّا ويمصٌّه (تمتزج في الفعل المضارع دلالتان، الأولى الزمن الحالي، و الثانيّة:الحدث بما فيه من قوّة و تضعيف و مبالغة). ثمّ ينقلنا الشاعر إلى تشبيه جديد ليس أقلّ غرابة من سابقه، يقول: " أزهاره السكرى غناء الطيور.ناحلة كالصدى "، فتلك الأزهار التي تَنْبُتُ في ذلك الحقل كإنسان يشرب الخمر إلى درجة السكر، و يسمع الغناء، كذلك الأزهار شربت من الماء الكثير، و استمتعت بغناء الطيور في الحقل، حتّى يكتمل المشهد الجميل، و لكنّ ظاهرة الشؤم في القصيدة تجعل هذه الأزهار ناحلة كالصدى (لا قيمة لها). هذا ما فعله، أيضاً، في الصور ة التالية:" أنغامه البلور كأنّ فيها مُدىً يجرحن قلبي فيستنزفن منه النور "، فتلك الأنغام كالبلور في جمالها، و لكنّ ظاهرة الشؤم،مرة أخرى، تجعل في الأنغام مُدى (شُفْرة) تجرح قلب الشاعر، ليحصل له نزيف، ليس نزيف دم بل نزيف نور (ضرب من الاستعارة) حتّى يجعل قلب الشاعر دون نور.

" و تغرب الشمس و هذا المساء "، بهذا السطر الجديد ينقلنا الشاعر إلى طائفة أخرى من الدلالات يمثّلها المقطع الثالث، فالغروب هذه المرّة غروب جديد اقترن بالمساء، غروب رافقه نزول المطر، و يوضّح لنا في السطر التالي من خلال النظرة التشاؤميّة التي تحكم النصّ أنّ هذا المطر - من خلال الاستعارة - ظلٌّ و صمتٌ (مطر ليس فيه حياة). و يبيّن لنا الشاعر من خلال الجملة الاعتراضيّة ماهيّة ذلك المساء، فقد غاف (مال) على جيكور، بينما جيكور – حتّى يوضح لنا المفارقة بينها و بين المدينة – ليلها هادئ، تهمس فيه النجوم أنغامها، يضطرب في عيون الأطفال، الذين يحضنهم عالم النوم (عالم الظل و الصمت و الذل و الخنوع ... الخ)،الأمل في المستقبل (الأجنحة). و بعد أن أضاء الدرب بنور القمر، و أنعم بالزهر، تأخذ النظرة التشاؤميّة بُعدها إذ يقول: " تكاد [الغيوم (كناية عن تلك القوّة التي تجعل من جيكور عالم نوم، لا تريد له الخير، تسرق منه النور و الزهور) أن تمسحه [النور] تسرق منه الزّهر "، لاحظ براعة الاستعارة، و انتقاء الأفعال المضارعة – كما قلنا في البنية التركيبيّة – المعبّرة عن دلالتين، الأولى: الزمن الحالي، و الثانية: الحدث و ما فيه من ألم و ضيق و غضب مكبوت تظهره تلك الأفعال المضارعة (يمصّ، يجرحن، تخفق، تسرق).

لاحظ كيف يستغلّ الشاعر تكرار الكلمات المتماثلة مع اختلاف الدلالات، الليل ((في المقطع الأوّل/المدينة)) لا ينام، بينما ((في المقطع الثالث/جيكور)) يتخذ دلالة أخرى، فيه أنغام النجوم، و تولد فيه الزهور. كذلك الحال في النور عبر المقاطع الثلاث على الترتيب: ((فجره (النور)،فيستنزفن منه النور، بنور القمر))، و غروب الشمس، و الزهور.

الجانب العَروضيّ?

يخلط الشاعر في بنية القصيدة العروضيّة بين بحرين، الرجز، وهو العمدة، و السريع، وكأنّه فرع، ممّا يجسد النظرة التشاؤميّة التي تحكم النصّ الشعر قضّه بقضيضه، النظرة القائمة على ثنائية الخير و تلاشيه بالشر.

لا بدّ و أن يخدم الإيقاع الداخلي بما فيه من زحافات و قافية و تفعيلات صحيحة البنية الخارجيّة للنص، و ما في البنية الداخليّة من تركيب و أصوات و دلالة و الصور المتشابكة المكثّفة، كلّ ذلك يحكم البني الخارجية (الإيقاع الخارجيّ للنص).

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير