ولعمري أن مثل هذه الأفكار جديرة أن تحط الأمم من عليائها, وتسبغ عليها ثوب الخمول بل وتقبرها في رمس الهمجية.
كم من ملايين من النساء شاركت في الحرب العالمية الأخيرة؟ وعلى مذهبكم هذا البائس لا توجد امرأة واحدة من بين النساء المقبورات في سجن البيوت تقدر أن تضرب بسهم في الدفاع عن الوطن.
وأما ما تشاغبون به من العفاف، فهو عادة والعادات دائما عرضة للتغير وإن كان أمس من الأمور التي تلحظ بعين الاعتبار فهو اليوم من الأمور التي تدعو إلى السخرية، وقد رأينا عظماء الرجال في البلاد السعيدة ذات السيادة المطلقة وفيهم الفلاسفة والعلماء والأمراء والوزراء لا يعبئون بهذه الأمور ولا يحسبون لها حسابا وقد استقر عندهم أن الفتاة إذا بلغت سبع عشرة سنة فقد صارت حرة في نفسها تصنع ما تشاء وتخالط من تحب وتسافر وحدها ليلا ونهارا، ونحن نقتدي بهذه الأمم ونترسم خطاها في جميع الشؤون.
المذهب الثالث:
متوسط بين المذهبين السابقين قد أخذ خير كل منهما وصوابه، وترك شره وخطأه، وذلك أن تعلم المرأة تعليما يناسب ما خلقت له أولا وهو تدبير المنزل وملؤه سعادة ونظاما وجعله منبتا صالحا للبنين والبنات الأبرار. وثانيا لتكون عونا للرجل في جميع شؤونه المعاشية والحربية والخلقية.
قال أصحاب هذا المذهب: إن أهل المذهب الأول مفْرطون، وأصحاب المذهب الثاني مفرّطون، ونحن نرد عليهم جميعا، ونبين ما عندهم من الخطأ، بادئين بأهل المذهب الأول فنقول:
إن منعكم المرأة من التعلم أو حصره في قراءة حروف المصحف دون فهم لمعنى ما تقرؤه منه، في غاية البعد عن الصواب، فلا هو إسلامي، ولا هو عقلي أو علمي محض، وإن زعمتم أنه موافق للإسلام وذهبتم في ذلك كل مذهب، حتى احتججتم بحديث واه ساقط لا تقوم به حجة عند أصحاب الحديث، هذا من جهة الرواية، وأما من جهة المعنى فهو باطل، فإن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم كن يقرأن، ويكتبن، وغيرهن من الصحابيات، والتابعيات، والحافظات المحدثات، اللاتي روى عنهن الحفاظ .. حتى إن كتب أسماء الرجال: كتهذيب التهذيب، والميزان، ولسان الميزان، والخلاصة، وقبلها طبقات ابن سعد وغير ذلك كلها مشحونة بأسماء عالمات وفقيهات وأديبات, ذلك في زمان عظمة الإسلام حين كانت راياته منصورة وجيوش أعدائه مكسورة مدحورة.
وأما آباؤكم المتأخرون الذين تريدون أن تقتدوا بهم في تجهيل النساء، فلم يكونوا قط أهلا للاقتداء بهم، فإن زمانهم هو زمان الجاهلية الآخرة، وكل الذي يقاسيه الإسلام اليوم فهو نتيجة أعمالهم، ومع ذلك لا نسلم لكم أن أهل العلم من آبائكم كانوا يقولون بهذا القول المرذول، وكيف وقد كان في زمانهم عالمات أديبات، وإن كن قليلات، فلم ينقطع الخير عنهن بالمرة.
وأما قولكم: إن القلم أحد اللسانين، وإن المرأة لجهلها بهذا اللسان وضرب الحجاب الشديد تأمن شر اللسانين، فقد أخطأتم في ذلك خطأ فاحشا. ألم تعلموا أن الفتاة التي ساءت تربيتها لا يمكن صيانتها ولو جعلت في حق وكانت صماء بكماء، والفتاة التي ربيت على العفاف والتحصن لا يصل إليها سوء ولو كانت بين الرجال في غير ريبة، وقد كانت النساء يرافقن رجالهن في الغزوات، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يصحب معه نساءه في الغزو والحج، وكانت نساء الصحابة غير قابعات في بيوتهن بل يخرجن لأشغالهن إن كانت، ويعلفن الخيل، ويكدحن في أموالهن، وكان النساء يغزون بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك مسطور في كتب الحديث لا نطيل بذكره، فلم يضرهن ذلك لقوة إيمانهن وكمال عفافهن.
والحاصل أن تعلم الكتابة والقراءة لا يصير المرأة فاسدة ولا صالحة وحده، فإن كانت صالحة فإن تعلمها الكتابة والقراءة يزيدها سلاحا, وإن كانت تربيتها فاسدة فبتعلمها تزداد فسادا؛ لأن العلم بالقراءة والكتابة آلة صالحة للاستعمال في الخير والشر معا.
وأما تعليم سورة النور فهو من أعظم ما أدب الله به المسلمات، وهو كنز عظيم، وذخر جسيم، ولكن ينبغي للفتاة أن لا تهجر غير هذه السورة من القرآن، وسبيل تعليم القرآن هو القراءة، والقراءة لا تنفع إلا بمعرفة المعنى، ومعرفة المعنى لا يمكن إلا بتعلم النحو والصرف واللغة، ولا بد لمن تتعلمه من القراءة والكتابة وأنتم منعتم ذلك, فهذا تناقض منكم وأنتم لا تشعرون.
يصيب وما يدري ويخطي وما درى
وكيف يكون النوك إلا كذلكا
¥