تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

فإذا وجدت رجلا موافقا في كل شيء فلا بد أن تجتمع به الفينة بعد الفينة وتختبر عشرته وحاله، فإن أعجبها فإن العادة التي جرت أن يتواعدا على الزواج ويبقيا سنين طويلة متواعدين، وفي طيلة مدة التواعد تظل خائفة عليه أن ينقض عهده ويتركها.

وهذا كثير جدا: أعرف كاتبة في القسم الشرقي من جامعة (بن) كانت في قلبها غصة لا تفارقها أبدا, وذلك أن رجلا عاهدها على التزوج، وبقي معها أربع عشرة سنة يعيش معها كما يعيش الزوج مع زوجته، أي يجتمع بها في أوقات فراغهما، ويخالطها كما يخالط الرجل زوجته، لا أنه ينفق عليها شيئا أو يتعاونان على المعيشة، لأن ذلك إنما يقع بعد عقد النكاح والاجتماع الرسمي، فيسميان زوجين، وأما قبل ذلك فيسميان متخاطبين فقط، وبعد مضي أربع عشرة سنة قضت فيها زهرة شبابها معه، وجد امرأة أكثر مالا منها فتزوج بها وتركها تتقطع حسرات.

وهذا نموذج من ألوف من أمثاله، ومن غريب ما وقفت عليه من شؤون المتخاطبين عندهم أن الرجل يخطب المرأة فيتفقان على الزواج، ويبقيان مدة طويلة تعاشران عشرة المتحابين، وهي كما قلنا مخالطة تامة كمخالطة الزوجين، ثم يعقدان النكاح ويجتمعان على الزواج، فلا يلبثان أن تسوء عشرتهما، فيقع الشقاق بينهما ثم يعقبه الفراق.

ومن عجيب ما سمعت من ذلك في مدينة (بن) الألمانية أن متخاطبين بقيا مدة عشرين سنة متعاشرين في غاية الوفاق والوئام، ثم تزوجا، فلم يلبثا إلا سنة واحدة حتى وقع الطلاق بينهما، وكانت تلك السنة كلها خصومات ونزاعا بينهما، فسألت عن سر ذلك فأخبروني أن الرجل والمرأة ما داما متخاطبين يستر كل منهما أخلاقه الحقيقية ويتخلق بغيرها مصانعة وتملقا لصاحبه، مخافة أن يمله ويفسخ الخطبة، فإذا وقعت عقدة النكاح بينهما يسقط كل واحد منهما الكلفة، ويزول التملق، وتنكشف مخبآت الأخلاق والعادات، فيتلوها التنافر ثم النزاع والخصام ثم الطلاق.

وبهذا تعلم أن قول بعض الأغرار من الشرقيين باستحسان مخالطة الخاطب لمخطوبته قبل العقد، وخلوته بها ومعاشرته لها، زاعما أن ذلك يكشف لكل واحد منهما دخيلة الآخر فيقع الاتفاق، فالحب هو أساس الزواج السعيد، إن هذا القول باطل, وحديث خرافة، لأن هذين المتخاطبين لا يمكن لأحد منهما أن يعرف طباع صاحبه الحقيقية إلا بعد إسقاط الكلفة، وذلك يكون بعد العقد، ولأنهما غير معصومين من المباشرة المحرمة وعاقبتها الوخيمة في العاجل والآجل.

ولذلك حرم الله تعالى على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم الخلوة بالأجنبية وقد جاء في الخبر "ما خلا رجل بامرأة، يعني أجنبية، إلا كان الشيطان ثالثهما"، ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدخول على المغيبات - يعني النساء اللاتي أزواجهن غائبون - وسئل عن الحمو، وهو أخو البعل، هل يغتفر دخوله على زوجة أخيه وخلوته بها؟، فقال صلى الله عليه وسلم: "الحمو الموت" يريد أنه شر من البعيدة في الخلوة، ونهى صلى الله عليه وسلم أن تسافر المرأة إلا مع زوج أو ذي محرم، كل ذلك كان منه محافظة على العرض والنسب والدين، وصلاح ذات البين، وصيانة لحقوق الرحم، أما نظر المتخاطبين كل منهما الآخر في غير خلوة ولا ريبة فلا بد منه، وقد أمر به النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم، وقولهم: إن الزواج السعيد أساسه الحب، فيه نظر فإن الحب على أنواع، منه: حب الشهوة كحب الطعام والشراب وركوب الخيل، وما أشبه ذلك, فهذا الحب هو في الحقيقة ألم يحز في النفس، ويعظم بفقد المسكن، وهو قضاء الغرض من المطلوب فإذا ظفر صاحبه بمطلوبه سكن ألمه وضعفت رغبته في ذلك المطلوب، وصار ينظر إليه بعين غير العين التي كان ينظر إليه بها عند فقده، وقد تستمر هذه الرغبة في الضعف حتى تنعدم، والدليل على ذلك أن كثيرا من الناس كانوا يعشقون نساء، وبذلوا في سبيل التزوج بهن كل ما يستطيعون بذله، فلما وصلوا إلى غرضهم لم يلبثوا أن ملوا أولئك النساء، ولم تبق لهن قيمة عندهم، لأنهم كانوا يحبونهن حب شهوة، فلما قضيت قضى معها الحب نحبه، وهذا عام في البشر: الشرقيين منهم والغربيين. وقد سئل بعض الأوروبيين: من تحب من النساء؟ فقال: أحب جميع النساء‍ ما عدا زوجتي! فإن لم يزل ذلك الحب بالمرة، فإنه يضعف كثيرا جدا، فإذا اتفق أن المحبوب كان غليظ الطبع جافيا سيء الخلق كان ذلك أدعى إلى موت ذلك الحب بسرعة وربما انقلب بغضا وعداوة.

ومنها حب ميل زوجي وهذا أطول عمرا من الذي قبله، فإن صادف أن المحبوب كان متصفا بأخلاق ملائمة لطبع المحب، ازداد ذلك الحب قوة على مر الأيام وثبت، وليس مقصودنا أن ننفي أن حسن الصورة من دواعي الحب الصحيح، ولا نقول بغض النظر عن كل حسن جسمي والاكتفاء بالجمال النفسي فإن هذا خطأ فإن الحب الصحيح لا يتم إلا إذا كان المحبوب جميلا في نفسه وهذا الحب يبنى على الزواج الشرعي الذي يكون كل من الزوجين قد رأى صاحبه قبل الزواج ورضي به زوجا بدون إكراه ولا إغراء، فإن صادفه الاتفاق في الأخلاق ومتانة الدين، كان ذلك أقوى له وأرسخ لقواعده، وهذا هو الذي أمر به الإسلام.

وأما اعتراضكم على الإسلام في جعله ميراث المرأة نصف ميراث الرجل، فهو اعتراض ساقط، لأن الرجل قد فرض عليه الإسلام فرائض مالية لم يفرضها على المرأة، منها دفع المهر، ومنها النفقة على الزوجة والأولاد والوالدين الفقيرين، زيادة على أن عليه حماية هؤلاء، والدفاع عنهم فهو في حاجة إلى المال، بخلاف المرأة فحاجتها في الجملة إلى المال قليلة.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير