الأقل توقع حدوث الضرر.
وربما لرغبة فى إثبات سبق الشريعة الإسلامية على الفكرة القانونية التى لم تظهر بوضوح قبل القرن السابع عشر تشبث الباحثون - وهم قانونيو النشأة كما قلت– بلفظة " التعمد " لما تقتضيه من اعتبار الإدراك والتمييز، وما قد تحتمله من شبه تقسيم الخطأ إلى خطأ عمدى أو جسيم، وخطأ بسيط، لينتهوا إلى أن الفكرة برمتها قد عرفت قبل " دوما " و " القانون الكنسى " بزمان طويل.
والحق أنهم أخطأوا النظر، وأساءوا إلى فسحة الشرع والفقه الإسلامى من حيث ظنوا أنهم يحسنون صنعا () بينما وفق الله الفقيه البلجيكى " سانتليت " والفقيه الفرنسى "ستارك" وغيرهما من الغربيين إلى طلب الاستعاضة عن نظام "المسئولية" بنظام الضمان Garontie الإسلامى () لأنه الأنسب إلى التطورات العلمية والتقنية والمتغيرات الاجتماعية، وذلك لقيام الضمان على قاعدة " جبر المضرور " وارتكاز المسئولية بصفة أساسية على مجازاة المسئول عن هذا الضرر، والملاحظ أن لدعوة هذين الفقهين وغيرهما ثمة استجابات قضائية وقانونية تدعو على الخطأ بالجحيم، بعد أن أصبح وكأنه كيان قائم برأسه لا شأن له بتيار الحياة العصرية.
والأمر الذى لا يشك فيه منطقى أن الشرع الذى يقرر أن " ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا " () ويوجب الدعاء بـ "ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا " () وينفى " الضرر والضرار " () ويفهم من كل ذلك فقهاؤه أن " الانتفاع بالمباح مشروط بسلامة العاقبة " وأن "قضية القربة لا تنافى الغرامة إذا أخطأ المحسن الطريق " لأن الله سبحانه نفى السبيل عن المحسنين " إذا نصحوا لله ورسوله " () والنصح أو النصيحة يعبر بها عن جملة إرادة الخير للمنصوح له مع بذل الجهد فى التحسين والإتمام والكمال، فإن وقع ثمة ضرر لم يكن الفاعل " ناصحا " ولم يتمخض الفعل إحسانا ().
الغاية أن الشرع الذى يقرر بنصوص قرآنية محكمة، وبأخبار نبوية تبلغ بالالتفات إلى المعنى مبلغ التواتر، وفى صدارتها حديث " لا ضرر ولا ضرار" الذى عد عمدة فى جل أبواب المعاملات، بل إنه عام متصرف فى أكثر أمور الدنيا، ولا يكاد أن يحاط بوصفه () يقرر بكل هذا أن الأنفس معصومة، والدماء والأموال والأعراض حرام، لا تحل إلا بأسباب محدودة محصورة يستحيل أن يجهل معنى الإهمال، إذ كيف بمن يستتيب الناسى " والنسيان يهجم على المرء لا حيلة له فى دفعه " () ألا يؤاخذ " المهمل " وفعله لا يعرى عن عدم التثبت والاحتياط؟!!
وإن فرضنا أن ما بأيدى الزاعمين من ترجمات لمعانى القرآن والسنة قاصر عن إبراز هذه الحقيقة، فهل فاتهم القياس على النسيان؟
وهل حجبت عنهم قاعدة " الضرر يزال " بصرف النظر عن سببه غير المشروع؟ وهل حجبت عنهم المصنفات الفقهية التى غالت فى " فرضيات " الضمان حتى قالت: بضمان النائم – نعم النائم – ينقلب على مجاوره فيقتله أو على ما يجاوره فيتلفه، وبضمان المصروع ما يضمن النائم، وبضمان الخميص -المضطر لإحياء نفسه بالأكل ونحوه وجوبا – مال غيره، لأن "الاضطرار لا يبطل حق الغير " ونحو ذلك من أمثلة تبدو لغير المدقق شطحات وخيالات؟!! ().
يبدو لى أن أسطورة " ماهاوند " لم تزل فى مخيلة القوم، أو أن الاعتراف للعربى بالفضل خطر يهدد المسيحية الغربية إلى اليوم، ولا مزيد.
– 4 –
وأخيرا قالوا: إن المدونة الإسلامية فى مسائل القانون العام غير ملائمة إطلاقا للعصر الحديث.
وأغلب الظن أن مرد هذه الفرية إلى تصور أن الحاكم فى النظام الإسلامى ظل الله فى أرضه كما هو حال الأباطرة والبابوات، وهذا التصور لا محل له البتة فى الشرع المنزل، وكذلك الاجتهاد الفقهى، وكثيرا ما أثبت الواقع العملى فى تاريخ الدولة الإسلامية بطلانه.
وإن كان مبنى هذا التصور ملاحظة بعض فترات الوهن فى تاريخ الدولة الإسلامية فهذا خطأ فى أساس التقدير، لأن الحق حكم على الرجال، وليس العكس.
¥