ففى كتاب الله " يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص فى القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفى له من أخيه شىء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم" () وقال "ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف فى القتل إنه كان منصورا " () وقال " وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون " ().
وفى السنة الشرفة " من قتل له قتيل فهو بخير النظرين إما أن يودى وإما أن يقاد " ().
وتغليب الحق الشخصى مع ندب العفو والنهى عن الإسراف فى العقاب حكمة لا تدركها المجتمعات المادية، لأن المجتمع وإن كان يتأذى من الاعتداء على نفس بذاتها، وهو مؤمن بأن " من قتل نفسا بغير نفس أو فساد فى الأرض فكأنما قتل الناس جميعا " () فإن تأذى المجنى عليه أو أوليائه أشد من تأذى المجتمع، ومن العدل إطفاء نار الغضب فى نفوسهم بتمكينهم من القصاص، وندبهم إلى العفو، ومتى شفى غليلهم بطلب الاستيفاء أو العفو عنه مجانا أو إلى بدل " الدية " عاد الهدوء إلى المجتمع وتحققت الوقاية من جريمة جديدة ().
" ومن الجدير بالذكر أن بعض النظم الجنائية المعاصرة قد أخذت نحو الاتجاه إلى تقرير تعويض للمصابين فى جرائم الأشخاص، ولأسر المجنى عليهم فى جرائم القتل، ويعتبر هذا التطور أحدث ما قررته النظم الجنائية المعاصرة فى شأن معالجة جرائم الاعتداء على الأشخاص.
فقد اقترح فى بريطانيا أن يكون للمحكمة الجنائية حق الحكم على الجانى فى جرائم الاعتداء على الأشخاص بتعويض يدفعه الجانى إلى المجنى عليه فى مقابل أصابته التى أحدثها الاعتداء، أو ما يكون قد لحق أملاكه بسبب الجريمة من إتلاف.
وفى سنة 1964 أصدرت حكومة نيوزلندا قانونا لتعويض المجنى عليهم فى جرائم العنف، وصدرت قوانين مماثلة فى عدد من الولايات المتحدة الأمريكية.
وهكذا فإن ما بدا غريبا من مسلك الشريعة الإسلامية للباحثين الغربيين أصبح الآن هو مقصد المشرعين الغربيين أنفسهم، بل أصبح – بصورة فيها بعض الاختلاف – مقررا فى النظم الجنائية الغربية ذاتها " ().
فضلا عن هذا فإن القوانين الحديثة تقر حق العفو عن العقوبة الأشد، أو العفو الشامل لرؤساء الدول أو الحكومات ()، والظن أن استخدامهم لهذا الحق مهما أحكم تداخله شبهة المحاباة سياسيا أو اجتماعيا، ولا شك أن إيكال هذا الحق إلى المجنى عليه أو أوليائه يحقق ضمانة للسلم الاجتماعى والعلاقات الإنسانية، على خلاف ما ينشأ عن تقريره بيد الإدارة ().
ويبقى بعد ذلك أن حق العفو قصر على القصاص " العقوبة الأشد " فحسب ()، كما أن مذهب الإمام مالك يجيز توقيع عقوبة تعزيرية على الجانى جزاء تعديه، وليس ذلك فى حالة العفو فقط، بل فى كل حالة، امتنع فيها القصاص ()
4 - تعويض الأضرار الشخصية عن الإهمال
زعموا أن لا اهتمام بالأضرار الشخصية لأن الشريعة الإسلامية لا تعرف معنى الإهمال.
ولا أجد شبهة يمكن أن يركن إليها هؤلاء الزاعمون إلا ما قد يكون استنتاجا من بعض القراءات الخاطئة لنظرية الضمان فى الفقه الإسلامى () فبعض الباحثين – وأكثرهم من المشتغلين أصلا بالفكر القانونى الوضعى، الذى هو نتاج مدرسة لم تزل تعتنق فكرة " الخطأ " أساسا لقيام المسئولية المدنية، وأنه بدون خطأ، واجب الإثبات أو مفترض، لا توجد المسئولية المدنية - غرتهم صياغة مجلة الأحكام العدلية للقاعدة الجامعة فى ضمان الفعل بلفظ "المباشر ضامن وإن لم يتعمد، والمتسبب لا إلا إذا تعمد " خصوصا وأن واضعى المجلة قد ركنوا إلى إحدى صياغتى كل من ابن نجيم صاحب الأشباه، والبغدادى صاحب مجمع الضمانات لهذه القاعدة، ولما كان منطلقهم البحثى - حسب التكوين العلمى - أن لا مسئولية بدون خطأ، وفى فهمهم القانونى أن الخطأ يعنى " الإخلال بواجب قانونى مقترن بإدراك المخل إياه " فإن مقتضى هذه الركيزة الفكرية أنه لابد فى الخطأ من عنصر نفسى، ولا وجود له إلا بالتمييز وإدراك المخل بالواجب الذى يلقيه القانون على عاتقه، فلا يكفى مجرد الإخلال بالواجب، بل يلزم أن يكون هذا مشوبا بقصد الإضرار، أو على
¥