وعلى هذا ينبغى البحث عن مادة أخرى ونظر آخر يصلحان معينا تنبع منه الثورة القانونية، وعلى الباحث إذا نشد الحقيقة أن يلحظ فى ديدن الغرب " هذه النظرة التى مبعثها الظن بأن الاعتراف للعربى بالفضل خطر يهدد المسيحية، وأنها لا زالت قائمة إلى اليوم " () ووفقا لهذا أيضا لابد وأن تكون عبارات المستشرق الإيطالى سانتلانا "إننا إذا توغلنا فى حقائق الأشياء فوجئنا بما نرى من تشابه شديد بين آراء الفقهاء المسلمين فى المدينة والكوفة وقرطبة، وبين آراء رجالنا فى الحقوق " () وعبارات غيره من كبار المشرعين فى الغرب " كلما نقصكم من أمور تشريعية، ولم تجدوها فى قوانين وأنظمة الأمم السابقة، أو احتجتم إلى تحليل أكثر فارجعوا إلى تعاليم الإسلام وفقهه، واستمدوا منه حاجتكم، وخذوا ما ينقصكم، فإن للعرب حضارة متكاملة، ومصدراً تشريعياً وافياً، لم يحفل التاريخ بمثلهما " () ونحوها ذات دلالات يقينية مقصودة، ليست وليدة العصر الحديث، وإنما هى عقيدة الأجداد فى " حكمة السادة العرب" () التى أصلت ونظمت صراعات الفلاسفة الدائمة مع الكنيسة الأوروبية ().
المبحث الرابع
ماذا أخذ الغرب من الهدى التشريعى الإسلامى
ذكر العلامة جينى أن القانون علم وصناعة، أو هو علم وفن، والانتفاع بالعلم القانونى يعنى نقل المادة التى تتكون منها القاعدة القانونية، أو ما اصطلح عليه بفقه الفروع.
والصناعة تعنى القواعد التى يتوسل بها المجتهد – المقنن – لوضع الفروع، وهى تقتضى إحاطة بالأدلة ودرجاتها، مع ملكة قادرة على التحليل والتأويل والتعليل والنقد والتقعيد، ولا تحصل طبعا إلا بدراسة ومكابدة، وينظم الصناعة عندنا ما اصطلح على تسميته بأصول الفقه.
والسؤال الذى نحاول الإجابة عليه ماذا أخذ العرب عنا؟ هل أخذ الصناعة أم العلم أم كليهما؟
الرأى عندى أنه أخذ كليهما ()، وقد عرضنا للمنهج -الفن- فى تحليلنا لمنهج بيتر أبيلار عميد هذه الثورة، ورأينا عمق التشابه بينه وبين الغزالى، ونعرض هنا للمادة ().
المطلب الأول
الحقيقة المثالية
لسنا نشك أن الغرب أخذ عن المسلمين المثال الأعلى للعدل، وقناعتنا هنا لا نسندها إلى إيماننا الواعى بأن الوحى " لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه "، فتلك حقيقة لا يسلم بها الخصوم، ولكننا نبنيها على اعترافات الغربيين أنفسهم أن "أوروبا كانت تبدو آنذاك بربرية همجية وثنية، ولا شك أنها متخلفة بأشواط طويلة عن سائر العالم المتحضر " ().
وفى ظل مسيحية بولس الملطخة بالوثنية والجهل تكرس الإيمان بعدم المساواة لا بين المسيحيين وغير المسيحيين () فحسب، بل بين المسيحيين أنفسهم، ففى تقاليدهم سلبية شديدة إزاء المرأة " ().
وفيها أن الفوارق الطبقية قدر محتوم لأن "الله يساند نظاما هرميا يجلس الغنى فيه فى قصره، بينما ينتظر الفقير عند الباب" ().
والظلم والمعاناة مدخل إلى الخلاص، فمسيحيتهم تمثل ديانة المعاناة والمحن بامتياز، وكانت فى أحسن أوقاتها فى الغرب فى أوقات المحن " ().
وأصل العقيدة أن الآدمى يولد على الخطيئة، ومنها وبها اتسمت مسيحية الغرب " برؤيا تشاؤمية للعالم الطبيعى، بسبب الاعتقاد بأنه انتكس، وفقد كماله الأول نتيجة لخطيئة الإنسان، ومن ثم فهى ترى الموت والألم والأحزان عقوبات للإنسان على سقوطه الأول " ().
ولا نظن أحدا ينازعنا الرأى أن المثال لا يخلو عن أن يكون خُلُقيا أو مصلحيا، ومظهر الخلق باد فيما سطرته أقلام الغرب ذاته، والمصلحة التى تتغياها حماية القانون استهجنها ابن العسال كما رأينا، وإن كانت ثمة مصلحة فهى فى تكريس الحق الإلهى، والاستعباد.
وعلى ذلك يتحتم على الباحث الذى يحترم عقله وفكره أن يبحث عن مادة للمثالية.
لا أتصور أن يكون الكتاب المنظور – الكون – لأن النظرة التشاؤمية للعالم الطبيعى تعمى عن المظهر " الإشراقى " () المفصح عن الحقائق العلوية، على الرغم من سبح الفلسفات العربية المترجمة فى فضاء هذا المظهر، لأن حداثة العهد بالحكمة تجعل من رؤية الومضة أمرا متعسرا.
ولا أراها كذلك فى الأدبيات والحكم، لأنها ذات دلالات جزئية على المثال الأسمى للعدل ().
¥