إننى أراها فى القرآن الكريم والسنة المشرفة، والعارفون باللسان العربى -وهم كثر – اطلعوا عليهما مبكرا جدا كما تشير إلى ذلك شكوى " ألفارو " أسقف قرطبة فى عام 854 م ().
ومن جهلوا لغة القرآن واتتهم الفرصة فى القرن الحادى عشر وبدايات القرن الثانى عشر على الأكثر بعد أن ترجم بطرس المبجل (1059 - 1156) رئيس دير كلونى الآباتى القرآن الكريم، ومجموعة من الأحاديث النبوية بمعونة فريق عمل من بين أعضائه شخص يدعى " محمداً " ترجموها إلى اللاتينية. "ورغم الهنات الواضحة والأخطاء التى ارتكبت فى هذه الترجمة فإن هذه النسخة اللاتينية عدت إلى أواسط القرن السابع عشر للميلاد أكثر الترجمات الغربية انتشارا، وأقربها نسبيا إلى الإطار العام للقرآن الكريم" ().
والسر فى أن يكون الوحى لا الاجتهاد هو الدال على المثل السامى للعدل هو أن حقائق هذا المثل ومضامينه تتكرر فى القرآن الكريم - والسنة المشرفة - على نحو ملحوظ تماما ()، مع التعريض بل التصريح بانتهاكات الأمم السابقة لهذا المثل، وما حاق بهم من جراء ذلك.
ومع التكرار - الذى مله بعضهم لجهله- فإن العين إن أخطأها البصر فى موضع أدركها فى آخر.
وبطرس المبجل هو الزعيم المؤسس للدراسات الإسلامية لدى مسيحيى القرون الوسطى، وقد انطلق من حتمية الصراع مع الإسلام، ولكن ليس بالسيف، وإنما بالكلمة والإقناع والحجة () ولا شك أن الناقد بصير.
ومما يدلنا على أن هذا كان هو المنهج أعنى التدبر لاستخلاص ما يظنونه حجة على المسلمين ما ظهر فى محاورات " بيتروس ألفونصوص " وهى تبنى على كثير من الاستشهادات القرآنية وتقرر أن " الإسلام دين بسيط وسهل المنال، وهو مبنى على العقل، وقانونه ملائم للإنسان بصفة عامة، والقرآن يدين العنف والعدوان على الناس " وقد نقلنا آنفا عن بعض مفكرى الغرب مدى التقبل الذى حظيت به كتابات ألفونصوص هذا ().
وتوما الاكوينى ينتهى فى كتابه " الرد على الخوارج " إلى أن " محمداً أسس قواعده وأحكامه التشريعية التى تتناسب مع قدرات وإمكانات العقل المتوسط فحسب"، ويقول أليكسى جورافسكى " وبالمناسبة فإن توما الاكوينى لا يستخدم كلمة القرآن بتاتا، وإنما يحل محلها عبارة قوانين محمد " ().
ولمؤلف يدعى غليوم الطرابلسى كتابان أولهما: بعنوان " رسالة حول إمبراطورية أحفاد إسماعيل " والثانى بعنوان " محمد وكتاب شريعة المسلمين " وضعهما قبل العام 1271 م ().
ولريموند مارتن – أول من وضع قاموسا عربيا لاتينيا – كتاب بعنوان " خنجر الإيمان ضد المسلمين واليهود " وفيه تظهر سعة اطلاعه على القرآن والحديث وفلسفة الإسلام، وكان ذلك قبل العام 1286م ().
وصدق الله العظيم " كذلك نسلكه فى قلوب المجرمين " ().
المطلب الثانى
الحقيقة العقلية
وهى كما ذكر العلامة جينى – حسب الشهرة – أهم الحقائق فى صناعة التشريع، وكما ذكر فإن النشاط العقلى المطلوب لا يقف عند الملاحظة والتجربة، بل يتعدى ذلك إلى جوهر الأشياء، بما لدى العقل من وسائل خاصة للمعرفة.
وعلى حد قول بيتر أبيلار – العلم الذى لا تخطئه العين كما يقولون – " فإن المعرفة هى فهم حقيقة الأشياء " وبيتر وزملاؤه إذ شرعوا فى بحوثهم العلمية والقانونية تحلوا – كما يقول توبى هاف " بروح جديدة من العقل وملامح العقلانية التى شرعت تفرض النظام فى كل مجال، وتسود كل مظاهر الحياة الفكرية، كما لو كان مفكروا العصر قد وضعوا على أعينهم منظارا من العقلانية" ().
وقد تعرفنا فيما سبق على أولئك النفر الذين حملوا مشاعل الثورة، وعرفنا مبلغ التأثير العربى الإسلامى فى تكوينهم، بل فى مناهج النظر التى ساروا عليها فى عملهم، ورأينا أنها لا تتشابه مع الاجتهاد الإسلامى فحسب، بل تتطابق معه، وأنها كما قال توبى هاف – " تتجاوز المستويات المنطقية المتوارثة من كل من اليونان والرومان" ().
ولسنا نسلم لألفريد جيوم بأنه " من العسير إن لم يكن من المستحيل أن نميز ثقافة قوم تسربت إليهم من ثقافات أخرى وتغلغلت فى ميادينها كما يصعب تمييز الماء العذب إذا انصب فى الملح الأجاج " () لأن آثار الحقيقة العقلية الإسلامية فى غربلة الوقائع والموروثات الكنسية لا تخطئها العين أبدا مهما غلفت اسما ورسما، أو بان فيها كثير من التحايل. ().
¥