لو أن الخلافة – مثلا – أسلوب متخلف لما قاومه المستعمرون، ولما بذلوا المرتخص والغالى فى سبيل القضاء عليه وتشويهه، حتى إنهم ليسوؤهم إلى اليوم مجرد التناجى باسمها.
المطلب الثالث
القدرات الذاتية للغرب الوسيط
فى
إحداث الثورة القانونية
القاعدة القانونية كما يقول الأستاذ "جينى" () العلامة الفرنسى تتحلل إلى علم وصياغة، أما العلم فهو المادة الأولية التى تتكون منها القاعدة القانونية، وعناصر هذه المادة عبارة عن أربع حقائق هى:
1 - حقائق واقعية أو طبيعية 2 - حقائق تاريخية
3 - حقائق عقلية 4 - حقائق مثالية
1 - أما الحقائق الواقعية:
فتتمثل فى الظروف التى يعيش المجتمع فى كنفها، ولواقعيتها فإنها يقينية، ولا يمكن إغفالها عند إنشاء القاعدة القانونية.
2 - الحقائق التاريخية:
وتتمثل فى ما تكون من قواعد لتنظيم الحياة والسلوك فى المجتمع، ثبتت على مر الزمن مما أكسبها صلابة وقوة واحتراما، جعلت منها تراثا لا يمكن إغفاله، أو التحلل منه كليه فى تكوين القانون.
3 - الحقائق العقلية:
ويظهر دورها فى غربلة المعطيات الطبيعية والتاريخية لاختيار ما يصلح منها للوفاء بالغرض الذى تستهدفه القاعدة القانونية المعتزم وضعها، وجملة المعطيات العقلية فى رأى الأستاذ جينى هى " حاصل مبادئ القانون الطبيعى فى صورته الأولى". ولها كما يقول " صفة علمية بالمعنى الواسع لأنها لا تقف عند الملاحظة والتجربة، بل تتعدى ذلك إلى جوهر الأشياء بما لدى العقل من وسائل خاصة للمعرفة".
4 - الحقائق المثالية:
وتعنى جملة من الرغبات والأمانى التى يوحى بها الشعور العام، أو حالة المدنية الراهنة، وعلى الرغم من أن حجيتها – كما يقول – غير حاسمة، إلا أنها تتدخل عند عدم وجود الحقائق العقلية أو قصورها، لتسد مسدها أو لتهذب نتائجها، فتقرب الحياة الاجتماعية من العدل الأسمى الذى تتجه إليه مطامح الإنسانية العليا والمتطورة دائما.
ويخلص الفقيه جينى من تحليله إلى أن الحقائق العقلية هى أهم الحقائق فى صناعة التشريع.
ومع قناعتنا بفضله على الفكر القانونى فإننا نؤكد أنه مسبوق فى علمه يقينا، بالعز ابن عبد السلام وابن القيم ().
وفى الزمن الذى وضع فيه العز ابن عبد السلام نظريته فى ضبط مصالح الدنيا ومفاسدها، وضع ابن العسال القبطى المصرى مجموعته " قوانين الملوك "، وقد أثر عن ابن العسال هذا قوله:
" من يدع الناس إلى ترك القنية () – الحيازة – بالكمال لا يضع لهم قوانين مفصلة فى أحكام المقارضات والمشاركات، ومن ينههم عن محبة العالم وما فيه () لا يقرر لهم معاملاته. ومن يندبهم إلى ترك الزواج () لا يرتب لهم أحكامه " ()
إذن لم يكن تحت بصر ابن العسال شئ يبتدئ منه أو يبنى عليه، بل إن المعطيات التاريخية والواقعية تؤدى كما يقول هو ذاته إلى عدم التقنين.
ونحن نقول للأستاذ هاف وكل القانعين برؤيته ما قاله ابن العسال " لا فض فوه".
1 - فالمعطيات الواقعية:
كما ذكر هاف نفسه تكشف أن أوروبا كانت صغيرة مبتدئة، فقدت الكثير من تراث روما - المزعوم - وبخاصة تقاليد القانون الرومانى، فضلا عن نصيب وافر من التراث اليونانى، وأخفقت أن تقيم تقاليد فكرية خارج نطاق الكنيسة ().
والواقع الأشد غرابة أن حملة مشاعل الثورة الأوروبية الموطن هم مجموعة من فلاسفة اللاهوت ().
2 - والمعطيات التاريخية تقول:
إنه ومنذ القرن الرابع الميلادى اعتنق قسطنطين - عبد الدنيا - المسيحية وطمس معالمها بالوثنية، وعمد البابوات القانون الرومانى الذى كان هو والإدارة اليونانية - على حد تعبير فيشر - قاصرين أشد القصور عن مبادئ العدالة والمعرفة بطبائع البشر () ولكن لم يلبث البابا "أمبروسيوس " - بعد أن نعمت الكنيسة بثروات ضخمة بفضل التبرعات وقبول الهبات مع الإعفاء من الضريبة – أن أرغم الإمبراطور تيودسيوس المتوفى 390م على السجود عند قدميه والرضوخ لإرادته، وأن يضع القوانين التى مكنت الكنيسة من السلطة الزمنية منذ هذا التاريخ.
وبعد ذلك بقليل وفى النصف الأول من القرن الخامس أصدر القديس أوغسطين نظريته المسماة " الدولة السماوية " وفيها " إذا أخفق الحاكم المدنى بسوء حكمه وجب على الكنيسة أن تتدخل، وأن يكون لها السلطان حيث فشل الحاكم المدنى" ().
¥