وفى عنفوان " الدولة السماوية " وضع جوستنيان – رأس الكنيسة ونائب المسيح على الأرض، وصاحب القرارات الشهيرة بإغلاق المدارس الفكرية، والمبشر الكبير بالمسيحية "المدونة " () ولا أدرى كيف لحاكم كنسى أن يخرج من " مدينة الله " إلى معبد الأوثان ويسكت عنه "البابوات " ينبوع الحق، إلا أن يكون فعله بمباركتهم.
وهنا يطرح السؤال الذى يثير الحيرة: إمبراطور كنسى يضع قانونا تعمده الكنيسة ثم سرعان ما يتوارى ولا يكشف عنه إلا بعد ستة قرون، ولا يستيقن من صحة مواده أو تحريفها إلى اليوم؟ () ثمة سؤال يحتاج جوابا عادلا.
الغاية أن مؤلفى جامعة السوربون يقولون عن عصر هذا الجوستنيان " اصطلح المؤرخون على أن يروا فى عهد الإمبراطور يوستانيوس (527 - 565) العصر الذهبى للمدينة البيزنطية، وهذا خطل فى الرأى لا سند له ولا دليل " ().
وعلى الرغم من أن القانون الرومانى قد ظل مطبقا فى إيطاليا وفى جنوبى فرنسا وفقا لمجموعتى تيودوز والملك آلاريك الثانى () فإنه فى ظل هذا الزمن الطويل عرفت أوروبا نظام التحكيم الإلهى أو نظام التجربة، وقسوة العقاب، واسترقاق الأحرار، والضرائب الباهظة، ومكوس التوبة والخلاص، والإسراف فى فوائد القروض مما جعل الناس يرون رجال البابا " أغلظ أكبادا من اليهود () "
ويلخص البابا ليو العاشر استغلال الكنيسة للمسيحية بقوله الفاجر " أى خير لم تجلبه لنا أسطورة المسيح هذه " ().
مجرد سؤال.
ولنا أن نسأل – فى ضوء الحقيقتين الواقعية والتاريخية – أى هذه العناصر اليقينية مما يحدث الثورة القانونية التى ينسبونها إلى الغرب فى القرون الوسطى؟
ثم كيف تكون هذه الثورة من إبداعات صفوة اللاهوتيين والفكر الكنسى كما رأينا؟
أليس من الأوفق أن يكون الثوريون جميعا متهمين بالهرطقة كبيتر أبيلار، وروجر بيكون، وسيجر البرابانتى، والإمبراطور فردريك الثانى، وألبرت الكبير، وغيرهم ممن حوربوا أو زج بهم فى السجون أو اغتيلوا أو أحرقوا؟.
لأننا مع لاهوتيين متدينين أوفياء لعقيدتهم لن نرى إلا عقلا - طبيعيا - يرفض القنية، ويبغض أباه وأمه والعالم، ويستعذب التبتل والآلام، وينفر من النظافة لأن طهارة الجسم منافية لنقاء الروح، وهو قبل كل ذلك قد تبرر بالمسيح فما الحاجة إلى ناموس الأعمال - القانون –؟
لا شك أننا إن أحسنا النظر واتبعنا المنهج الديكارتى – بحسب الشهرة – فإننا سننتهى يقينا إلى رفض أن يكون للثورة القانونية فى الغرب الوسيط أصل غربى، فى المادة والمنهج على السواء () فالأمر كما تقول الأستاذة سيجريد هونكة " إن الباحث إذا ما انتقل إلى بيزنطة ليقفز منها إلى المسيحية فى العصور الوسطى ازداد شكه فى اليونان والرومان، وأيقن أن أوروبا بأثينا وروما لا تستحق كل هذه العناية، وأن ما يحاول المغرضون خلعه عليها ما هو إلا ضباب" ().
وعلى هذا ينبغى البحث عن مادة أخرى ونظر آخر يصلحان معينا تنبع منه الثورة القانونية، وعلى الباحث إذا نشد الحقيقة أن يلحظ فى ديدن الغرب " هذه النظرة التى مبعثها الظن بأن الاعتراف للعربى بالفضل خطر يهدد المسيحية، وأنها لا زالت قائمة إلى اليوم " () ووفقا لهذا أيضا لابد وأن تكون عبارات المستشرق الإيطالى سانتلانا "إننا إذا توغلنا فى حقائق الأشياء فوجئنا بما نرى من تشابه شديد بين آراء الفقهاء المسلمين فى المدينة والكوفة وقرطبة، وبين آراء رجالنا فى الحقوق " () وعبارات غيره من كبار المشرعين فى الغرب " كلما نقصكم من أمور تشريعية، ولم تجدوها فى قوانين وأنظمة الأمم السابقة، أو احتجتم إلى تحليل أكثر فارجعوا إلى تعاليم الإسلام وفقهه، واستمدوا منه حاجتكم، وخذوا ما ينقصكم، فإن للعرب حضارة متكاملة، ومصدراً تشريعياً وافياً، لم يحفل التاريخ بمثلهما " () ونحوها ذات دلالات يقينية مقصودة، ليست وليدة العصر الحديث، وإنما هى عقيدة الأجداد فى " حكمة السادة العرب" () التى أصلت ونظمت صراعات الفلاسفة الدائمة مع الكنيسة الأوروبية ().
المبحث الرابع
ماذا أخذ الغرب من الهدى التشريعى الإسلامى
ذكر العلامة جينى أن القانون علم وصناعة، أو هو علم وفن، والانتفاع بالعلم القانونى يعنى نقل المادة التى تتكون منها القاعدة القانونية، أو ما اصطلح عليه بفقه الفروع.
¥