زعم الأستاذ توبى هاف أنه قبل ثورة الغرب القانونية لم تكن هناك تشريعات ولا إجراءات تتعامل مع التحقيقات والجريمة والعقود والملكية …… إلخ.
وهذه فى الحقيقة مغالطة، إذ كانت هناك إجراءات وعقوبات ولكنها بربرية جائرة، فأنكرها المتخرصون حتى لا يسألوا، ومن أين جاء المستحدث؟
والقديم فى التحقيقات الجنائية كان يمضى وفق نظام التجربة أو التحكيم الإلهى، ولها صور، ذكرها أستاذنا الدكتور محمد سند منصور () وهى:
1 - تجربة النار: وبمقتضاها يقوم القاضى " القسيس " باختيار أحد الخصمين والغالب " المتهم " ويأمره بأن يقبض بيده على حديد ملتهب، أو يخطو بقدمه على محراث محترق، ثم يضمد القديس جراحه بصورة خاصة، فإذا شفى فى ثلاثة أيام فهو برئ وإلا فهو مجرم.
2 - تجربة الماء المغلى: وبمقتضاها يقوم القسيس بوضع يد المجرم فيه، ثم يعامله معاملة التضميد وانتظار البرء.
3 - تجربة الماء البارد: وبمقتضاها يلقى المتهم فى النهر، فإن طفا فهو مذنب، وإن غطس فهو برئ.
4 - تجربة القطعة اللعينة: وهى قطعة من الخبز الجاف يقوم القسيس بإعدادها خصيصا، ويدعو المتهم القوة الإلهية أن توقفها فى حلقه إذا كان مذنبا، ثم يبدأ فى أكلها على مهل فإن ابتلعها سهلة فهو برئ وإن توقفت بأى صورة فهو مذنب.
5 - التجربة المضاعفة: وتستخدم فى اتهام فى جريمة ضد السيد الإقطاعى أو الملك، وفيها يضاعف الحديد الملتهب ثلاثة أمثاله فى الجرائم الأخرى، أو يغمس الذراع كله فى الماء المغلى بدلا من الرسغ فى الجرائم العادية.
ويعلق الدكتور سند من بعد بقوله " هذه التجارب يجريها القسيس، أى أنها طريقة كنسية، ومما يستوقف النظر والفكر أن البابا كان يغرى الناس بالانضمام إلى الجيوش بمنحهم ميزة التحاكم أمام المحاكم الكنسية، ترى ماذا كانت المحاكم الأخرى؟!!.
أما العقاب على الجريمة فيختلف بالنظر إلى المجنى عليه، وعقوبة السرقة تتردد بين الاسترقاق والإعدام ().
ولم تلغ طريقة التحكيم الإلهى، ويتقرر الإثبات الجنائى عن طريق الشهود إلا بقرارات مجمع اللاتيران فى العام 1215 () أما تهذيب العقاب، وإصلاح نظامه، وترقى الغرض منه فقد تأخر عن ذلك كثيرا جدا ().
رابعا: استحداث معاملات ومبادئ جديدة:
يقولون " القانون مرآة المجتمع " فهو يعكس حضارته ومبلغ تقدمه، ومتى تخلف القانون عن مواكبة التطور الاجتماعى فإنه يصبح معوقا للآمال وضارا بالمصالح، لذا يجب اجتثاثه.
والمجتمع الأوروبى فيما قبل القرن الثانى عشر كان بدائيا إلى حد كبير، يقول الكاتب الأسبانى بلاسكو أبانيز " وبينما كانت شعوب الفرنجة والسكسون والجرمان يعيشون فى الأكواخ ويعتلى ملوكهم وأشرافهم قمم الصخور فى القلاع المظلمة، ومن حولهم رجالهم هم عالة عليهم، يلبسون الزرد، ويأكلون طعام الإنسان الأول قبل التاريخ، كان العرب الأندلسيون يشيدون قصورهم القوراء، ويردون الحمامات" ()
ويقول السير سايكس - أحد الثنائى الشهير سايكس بيكو " ظن الأتراك أن فتح القسطنطينية تاجاً يزين مفارق الترك، ولكنه كان فى الواقع ضربة قاصمة لهم، حيث ورثوا مفاسد بيزنطة، ومساوئ أبنائها من الخصيان، والجواسيس، والمرتشين، والوسطاء، إذ ظل هؤلاء جميعاً كما كانوا " ().
وعلى الرغم مما كان بين أوروبا والمسلمين من صراعات الحروب الصليبية، فإن الغرب لم يجد بدا من التعامل التجارى مع المجتمعات الإسلامية، وأشهر المراكز التجارية فى ذلك الحين هى تلك التى تقع تحت السيادة الإيطالية اليوم.
ثم حدث أن سقطت صقلية فى العام 1076م وبسقوطها فقد المسلمون نفوذهم على كامل إيطاليا () ولكن حضارتهم كانت من القوة بحيث لم تفلح معاهدات البابا مع ملوك صقلية " النورمان " فى إحلال القيم والتقاليد الكنسية محل القيم والأعراف السائدة فى هذه البلاد. () فبقيت النظم الإسلامية قائمة، واستمر التدفق الحضارى فى الزراعة والصناعة والتجارة فى ظل نظام مثالى فى الضرائب والاقتصاد ولم تنقطع صلات أهلها بأخوتهم فى الشرق، بل واتجهوا إلى إقامة علاقات تجارية مع الغرب فى جنوب فرنسا، حيث إمارات العرب ().
¥