يشترط الواقفون في العين الموقوفة شروطاً كثيرة يريدون بها سد ذرائع اضمحلالها، أو عبث الناس بها أو منع النظار من استغلالها على غير الطريقة المرسومة، أو تعطيل مصالحها، ومن هذه الشروط أن لا تُباع ولا تُستبدل، وأن تُؤجَّر ولا تُسكن، أو العكس، وأن لا يضاف في بنائها إلا من ريعها، ونحو ذلك.
الشروط في الناظر:
إذا أراد الناظر حسن رعايةٍ وإدارة لوقفه اشترط أن يكون الناظر صالحاً، وأن يكون من ذريته أو قرابته؛ ليكون أحنى وأحرص على وقف قريبه.
الشروط في الريع في ترتيب صرفه والفاضل بعد المعينات:
ومن شروط الواقفين في الريع ترتيب مصارفه؛ فيبدأ الناظر بالإنفاق على صيانة الوقف، ثم على ما أُنشأ وقفه لأجله، فإن فضل شيء فيُنفق في مصرف ثالث، أو توفَّى حصة المصرف الأول.
فالشروط في كتاب الوقف هي النظام الذي يُرجع إليه عند إدارة الوقف.
4. المبحث الأول: مكانة شروط الواقفين في الشريعة
إن لشروط الواقفين قوة واعتباراً تستمدهما من أصل شرعية الوقف، وذلك لأن الأصل أن الواقف لم يرض بحبس ملكه لله تعالى وإخراجه من ملكه إلا بهذه الشروط، ومقتضى ذلك في سائر العقود أن الشرط إذا لم يتحقق بطل العقد وعاد المعقود عليه إلى صاحبه، ولا سبيل إلى ذلك في الوقف؛ فوجب اعتبار شروط الواقف في وقفه.
وقد عبَّر ابن القيم عن هذا المعنى بقوله في "إعلام الموقعين" (1/ 236):
( .. الواقف لم يُخرج ماله إلا على وجه معين؛ فلزم اتباع ما عينه في الوقف من ذلك الوجه).
وقد اتفق العلماء على أن شروط الواقف ـ في الجملة ـ معتبرة في الشريعة، وأن العمل بها واجب.
مخالفة شرط الواقف قد تكون من الكبائر:
حتى عد الهيتمي في "الزواجر" (1/ 439) ترك العمل بشرط الواقف من الكبائر فقال: ( .. وذِكْري لهذا من الكبائر، ظاهر وإن لم يصرحوا به؛ لأن مخالفته يترتب عليها أكل أموال الناس بالباطل , وهو كبيرة) أهـ.
وفائدة هذا المبحث أنه يجب اعتبار هذا الأصل، والبقاء على هذا الحكم، ولا نخرج منه إلا بما يدل على جواز إهماله.
والفقهاء يُعبرون عن ذلك بقولهم: نصوص الواقف كنصوص الشارع
في الفهم والعمل، وبعض العلماء يقولون في الفهم دون العمل، والصحيح أنه فيهما؛ ما لم تخالف الشريعة.
هل نصوص الواقف كنصوص الشارع في وجوب العمل؟:
جاء في "غمز عيون البصائر" (1/ 334) قوله: ( .. قول العلماء: شرط الواقف كنص الشارع: قيل: أراد به في لزوم العمل , وذلك أيضا بأمر الله تعالى وحكمه؛ فلا يلزم عليه إنكار بعض المحصلين في زماننا؛ حيث قال: هذه كلمة شنيعة غير صحيحة) أهـ.
ومن شنع على هذه الجملة من العلماء فإنما قصد ما عليه بعض الفقهاء من إعطاء قدسية لنصوص الواقف، وإن خالفت قواعد الشريعة ومقاصدها.
وانظر في وجوب اتباع شرط الواقف "مطالب أولي النهى" (4/ 320)، و"درر الحكام" (2/ 138)، و"الفتاوى" (2/ 14) للسبكي.
5. المبحث الثاني: المعتبر في دلالة ألفاظ الواقفين
هذه المسألة مهمة؛ لما فيها من تحقيق إرادة الواقف، وما يترتب عليها من العدل بين الموقوف عليهم.
من اعتبر من العلماء عرف الشارع إن كان له عرف:
ذهب بعض العلماء منهم السبكي كما في "الفتاوى" (1/ 356) إلى أن المعتبر في ألفاظ الناس ومنهم الواقف هو اللغة وعرف الشارع، فقال رحمه الله:
( .. ولو كان فهم العوام حجة لم يُنظر في شيء من كتب الأوقاف , ولا غيرها مما يصدر منهم , ولكنا ننظر في ذلك , ونجري الأمر على ما يدل عليه لفظها لغة وشرعاً سواء أعلمنا أن الواقف قصد ذلك أم جهله , وما ذاك إلا أن من تكلم بشيء التزم حكمه , وإن لم يستحضر تفاصيله حين النطق به) أهـ.
وكذلك الزركشي في "البحر المحيط" (5/ 86) ذهب إلى أن ما له مسمى عرفي وشرعي يُحمل عند الإطلاق على الحقيقة الشرعية أولاً، ثم العرفية.
وفصَّل في "المنثور" (2/ 378) في تعارض العرف مع الشرع ورأى أنه إذا لم يتعلق بالعرف الشرعي حكم فيُقدم عليه؛ فلا يحنث عنده من حلف لا يأكل لحماً فأكل سمكاً وإن سماه الله تعالى لحماً؛ فرأى تقديم عرف الاستعمال على عرف الشرع، وعلَّل ذلك بأن فيه تسمية لم يتعلق بها تكليف، ولأن الإنسان إنما يؤاخذ بما نواه وفعله.
¥