ثم ذكر النوع الثاني وهو تعلقُ حكمٍ بعرف الشرع وأنه يُقدم الشرعي على عرف الاستعمال؛ كما إذا حلف لا يصوم لم يحنث إلا بالإمساك بالنية في زمن قابل للصوم، ولا يحنث بمطلق الإمساك؛ وإن كان صوماً لغة.
هذا كلام الزركشي باختصار.
وهذا هو الاتجاه الأول.
من اعتبر عرف الواقف أو لغته:
وهناك اتجاه آخر قال به أكثر أهل العلم، وهو أن المعتبر عرف الاستعمال أو لغة المتكلم دون النظر إلى لغةٍ أو عرفٍ آخَرَيْن؛ لأن كلام الناس في عقودهم وإنشاءاتهم إنما يدل على مقاصدهم هم، فلا تكون لغة الشارع أو عرفه دليلاً على مقاصدهم.
ويُقوَّى هذا من وجه آخر: بأنه إذا كانت اللغة الغالبة لبلد إنما تُعرف بها مقاصد المتكلمين بها، وأنه لا يجوز أن يُفسَّر بها كلام أقلية تتكلم بغيرها؛ فكذلك ألفاظ وعقود الناس إنما تُفسر بلغتهم، أو عرف استعمالهم، وليس بلغة الشارع أو عرفه.
ولا يُستثنى من هذه القاعدة ما استثناه الزركشي رحمه الله مما تعلق به حكم بعرف الشرع؛ وذلك لأن مناط الحكم هو مراد المتكلم، ولا سبيل إلى ذلك إلا بلغته، أو عرف استعماله.
وهذه المسألة ـ في أصلها ـ ضرورية ظاهرة؛ ولهذا بنى عليها العلماء في فهم ألفاظ الكتاب والسنة؛ فقرروا أن المعتبر في ذلك مصطلح الشارع؛ لأنه أقوى الدلالات على مراده؛ فإن لم يوجد له مصطلح فلغة العرب؛ لنزول القرآن بها؛ فإن لم توجد فعرف المخاطبين في ذلك.
بعض الشروط بين الشريعة ومصطلح بعض الناس:
فعلى ذلك: لو وقف على الفقراء من يرى أن عادم بيت المثل فقيراً: جاز لناظر وقفه أن يُعطي مَنْ هذه صفته من ريع هذا الوقف، ولو كان حد الفقر في الشريعة لا ينطبق عليه؛ لأننا استنبطنا مراده من عرفه المطرد.
وكذلك من وَقَفَ على طلبة العلم وفي مصطلحه، أو عرفه الدارج عند الإطلاق أن العلم هو كل ما نفع الناس في دينهم ودنياهم جاز إعطاء طلاب العلوم البحتة النافعة للأمة من وقفه، ولو كان العلم في الشريعة واصطلاح الفقهاء يُطلق على علوم الكتاب والسنة.
من أقوال أهل العلم في اعتبار عرف الواقف:
قال ابن عبد السلام في "قواعد الأحكام" (2/ 126): (فصل في تنْزيل دلالة العادات وقرائن الأحوال منزلة صريح الأقوال في تخصيص العموم وتقييد المطلق وغيرهما، وله أمثلة .. ) ثم سرد جملة منها.
وقال الغزالي في "المستصفى" (248): ( .. وعلى الجملة فعادة الناس تؤثر في تعريف مرادهم من ألفاظهم .. ).
وقال ابن تيمية في "الفتاوى الكبرى" (4/ 258): ( ... مع أن التحقيق
في هذا أن لفظ الواقف ولفظ الحالف والشافع والموصي وكل عاقد يُحمل على عادته في خطابه ولغته التي يتكلم بها ; سواء وافقت العربية العرباء، أو العربية المولدة، أو العربية الملحونة، أو كانت غير عربية وسواء وافقت لغة الشارع،
أو لم توافقها ; فإن المقصود من الألفاظ: دلالتها على مراد الناطقين بها ; فنحن نحتاج إلى معرفة كلام الشارع؛ لأن معرفة لغته وعرفه وعادته تدل على معرفة مراده , وكذلك في خطاب كل أمة وكل قوم ; فإذا تخاطبوا بينهم في
البيع والإجارة أو الوقف أو الوصية أو النذر أو غير ذلك بكلام رُجع إلى معرفة مرادهم، وإلى ما يدل على مرادهم: من عادتهم في الخطاب ; وما يقترن بذلك من الأسباب).
وقال ابن الشاط في "إدرار الشروق" (1/ 66) في المعتبر في ألفاظ الطلاق:
( .. فإنه كما يتبدل العرف من العرف كذلك يتبدل العرف من اللغة , وإلزام العقود من الطلاق وغيره مبني على نية المتكلم أو على عرفه لا على اللغة ولا على عرف غيره هذا فيما يرجع إلى الفتوى. وأما ما يرجع إلى الحكم فأمر آخر؛ لمنازعة غيره له؛ فإنما يحكم بعرفه لا بنيته؛ لاحتمال كذبه فيما يدعيه من النية؛ فالحكم مترتب على العرف سواء كان ذلك العرف ناقلاً عن اللغة، أم عن عرف سابق عليه ناقل عن اللغة , وعلى الجملة فالاعتبار بالاستعمال الجاري في زمن وقوع العقد؛ فإن كان لغة جرى الحكم بحسبه , وإن كان عرفاً ناسخاً لها، أو لعرف ناسخ لها فكذلك .. ) أهـ.
وقال ابن نجيم في "البحر الرائق" (6/ 226): ( .. يُحمل كلام كل عاقد وحالف وواقف على عرفه ولغته وإن خالفت لغة العرب .. ) أهـ.
دليل الخطاب عند الحنفية في ألفاظ الواقفين:
¥