وملاحظة أخيرة في هذا الفصل, وهي أن أبا الفتوح, لم يعرج على هذه العقيدة فيما جمعه من رسائل شيخه أبي البيض , المسمى (در الغمام الرقيق) , مع أنني نقلت أقواله فيها هنا منها! ولعل ذلك راجع إلى أن أبا الفتوح بدا له في الأمر وغير رأيه , كما في مسألة عدالة الصحابة , وتكفير الشيخ لجماعة منهم , وعلى رأسهم معاوية رضي الله عنه , بيد أنه تبين لي أنه ما زال متأرجحا بين الإيمان والكفر , فهو يجمجم ولا يُبين , فتارة يثني على دهاقنة الاتحاد كابن العربي، والششتري، و ابن سبعين، وابن أضحى، والتلمساني، وحتى التجاني، وابن عجيبة، والحراق , وهلم جرا ومسخا , ويؤذن لأنعامه بالتغني بأشعارهم في طقوس (العمارة) اليهودية , بثكنته التي سماها الآن (دار القرآن)! و القرآن بريء منها , وتارة يتظاهر بالإنكار والرد , لتحقيق المآرب , وتيسير المآدب , (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) [الشعراء: الآية227].
الفصل الثاني
تفسيره القرآن بالرأي
وجزمه بأن رأيه المختار هو مراد الله تعالى
وحلفه بالله تعالى على أنه مراده
تعالى الله عن عبثه بكتابه المقدس
من المعلوم في الدين الإسلامي أن القرآن العظيم هو أصله الأول وأساسه الأصيل, وقد جمع الله فيه ما تفرق في ما قبله من الكتب والصحف المنزلة من أسمائه وصفاته , وأحكام دينه وشريعته الموصى بها من الرسل قبله, المشار إليها بقوله عز وجل: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ) (الشورى:13).
وهذا الدين الأول والآخر هو توحيد الله تعالى بمعرفة أسمائه الحسنى وصفاته العلى, وقضائه وقدره الكوني والشرعي, وما يتعلق بذلك ويترتب عليه من الإيمان وضده, وثوابه وجزائه, وما أعد الله للمؤمنين والكافرين من نعيم ونَكال, وما شرع لعباده على ألسنة أنبيائه ورسله, من شرائع وأحكام, وحلال وحرام, وقواعد الإسلام والإيمان, وأنباء البعث والنشور وقصص الأنبياء, وغير ذلك من التعاليم الإلهية التي ضمنها كتابه العظيم, الذي أخبر أنه جعله (تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ) (النحل: من الآية89)) وأنبأنا بقوله (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ) (الأنعام: من الآية38)) ولذلك قال الإمام الشافعي رحمه الله: (كل ما صح عن رسوله من السنة فهو مما فهمه من القرآن).
وقد اتفقت كلمة علماء السلف الصالح أن التصدي لتفسيره من الصعوبة بمكان, وتفاديا للخطأ فيه حددوا تفسيره بمراتب ثلاث:
تفسير القرآن بالقرآن, لأنه لا أحد أعلم بمراد الله منه, والقرآن مليء بهذا النوع من التفسير, وقد اعتمده كثير من علماء الحديث ومفسريه كابن كثير رحمه الله, وقيض الله له من المعاصرين شيخنا الإمام: محمد الأمين بن المختار الجكني الشنقيطي رحمه الله, فجمع فيه سِفره العظيم (أضواء البيان، في إيضاح القرآن بالقرآن) وهو مطبوع, يلي هذه المرتبة:
تفسير القرآن بالسنة: لأنه لا أحد يتقدم الرسول المخاطب به من ربه , وهو كان المقصد الأول من جمع التفاسير المسندة, كتفسير ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه وعبد الرزاق وسنيد وغيرهم, وقد جمع تفاسيرهم بحذف السند مع الأسف السيوطي رحمه الله في كتابه الجامع (الدر المنثور في التفسير بالمأثور) وقد طبع مرارا, والمرتبة الثالثة:
تفسير الصحابة, رضي الله عنهم: وتفاسيرهم في الغالب يكتنفها اختلاف, إلا أنه اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد, ويجب اعتبار هذا التفسير لأنه صدر ممن شاهد التنزيل, وعرف المناسبات وأسباب النزول, وخالط الرسول صلى الله عليه وسلم, وعلم تصرفاته وأعماله, وفهم أخلاقه التي كانت مستمدة من القرآن كما قالت زوجه أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (كان خلقه القرآن).
¥