فإذا لم يوجد تفسير في هذا المراتب, وقلما يفقد, لجأ المفسر إلى اللغة العربية وأساليبها, ومعرفة سَنَن العرب في كلامها, فإنه واجد بإذن الله في ذلك ما يكفي ويشفي, إلا أنه قبل هذا وبعده, لابد من مراعاة أحكام وآداب يجب توافرها في المفسر , حتى لا يقع في المحظور إن هو أرخى العنان لهواه ونحلته, فيَضِلُّ ويُضِلُّ, وقد كان الأولون في عافية من هذا المأزق, لكونه غير معروف يومئذ, فلما تعددت المذاهب والنحل, وتكاثرت البدع والأهواء, اقتحم الضالون العقبة, فتجرأوا على تفسير القرآن بأهوائهم وعقائدهم, وكان منهم الصوفية الذين بالغوا في الافتيات على الله, وقَوَّلوه سبحانه ما لم يقل, فظهرت تفاسيرهم التي أُقسِمُ بالله بارّا غير حانث أنها عبث بالقرآن, وتلاعب بأغراضه ومعانيه, وهذه تفاسيرهم بين أيديكم, للنيسابوري والمهايني وإسماعيل حقي, والتستري والسُّلَمي والورتجيبي والقُونوي والقُشَيْري وابن عجيبة, وهي بدون شك من التفسير بالرأي المذموم, والأمر في غنى عن التحذير والنهي, فإن مجرد تصوره كاف في اجتنابه, والنفور منه, وقد ورد عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال: (أي سماء تظلني, وأي أرض تقلني إذا قلت في القرآن برأي أو قلت فيه بما لا أعلم) (). وورد عن عمر ابن الخطاب رضي الله عنه مثل هذا في تساؤله عن معنى (الأب) , أما في المرفوع من الحديث فلا يصح, وهو ما رواه الترمذي وأبو داود عن جندب بن عبد الله مرفوعا: (من قال في كتاب الله عز وجل برأيه, فأصاب فقد أخطأ) () وفي سنده سهيل بن أبي حازم, لا يحتج به. وعن ابن عباس مرفوعا: (من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار) ().
وفي رواية أخرى عنه: (اتقوا الحديث عني إلا ما علمتم, فمن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار, ومن قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار) ().رواه أحمد في المسند والترمذي, ومداره على عبد الأعلى بن عامر الثعلبي وهو ضعيف.
ومزاولة أبي البيض هذا النوع من التفسير بالرأي المذموم كثير في كلامه , بل إنه أملى في منفاه تفسيرا من سورة البقرة إلى سورة الناس , سماه (الإقليد, في تنزيل كتاب الله على أهل التقليد) في مجلدين ما زالا مخطوطا , ومنهجه أنه ما مر بآية في ذم المشركين والصابئين وأهل الكتاب والمنافقين إلا وأنزلها على المقلدين من المسلمين دون تمييز ولا تفصيل, في أسلوب مشعر بأنهم المراد لا غيرهم, والتقليد المبتدع ما اتصف به فريق من الفقهاء المتعصبين, لا التقليد كله, لأنه معلوم أنه لا مفر منه للعوام وأشباههم مِن مَن لا دراية لهم ولا فهم, ولست في حاجة إلى التمثيل, فإنه كما قلت تنزيل للقرآن الكريم على الأبرياء من أمة محمد صلى الله عليه وسلم, وفيهم من يعدهم أبو البيض أولياء عارفين صالحين, وإن أنكر كونهم مقلدة, وهو بذلك يحاول ستر الشمس بالغربال.
والكتاب الآخر الذي تورط فيه في هذا الخبل هو (مطابقة الاختراعات العصرية، لما أخبر به سيد البرية) وهو مطبوع, وقد ملأه بالأحاديث الواهية والموضوعة, يوردها أحيانا بأسانيدها ويسكت, وهو يعلم أنها كذب, وهو بذلك داخل في وعيد حديث: (من حدث عني بحديث يُرى أنه كذب فهو أحد الكاذبَيْنِ)، وحديث (إن كذبا عَلَيَّ ليس ككذب على أحد, فمن كذب عليَّ فليرد النار) والحديثان صحيحان.
وقد انفرد أبو البيض بقاعدة أصَّلَها في مصطلح الحديث لا علم للناس بها, وهو مجتهد في كل شيء, حتى في اللغة, والقاعدة أن الحديث إذا أورد مطابقا للواقع فهو صحيح بقطع النظر عن سنده, وقد تبعه على هذه القاعدة الغمارية شقيقه أبو العسر, فإنه كان مهووسا بهذا النوع من أحاديث الملاحم وأشراط الساعة.
وقد أورد أبو البيض طائفة من الآيات , زعم أنها مطابقة لما ظهر في هذا الوقت من المخترعات ,كالطائرة والغواصات , والسيارات والقطارات, والدراجات والقنابل الذرية, والتلغراف والتليفون إلخ, يصرح في أثناء ذلك بأن المعنى الذي فسَّرها به هو الصحيح الواقع, ومن زعم غيره من مفسري السلف فهو جاهل معذور, وقد استولى عليه هذا الفهم, وولع به حتى انتهى به المطاف إلى الافتيات على الله, والحلف على مراده, وقال في قوله تعالى من سورة البقرة: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) (البقرة:8) إلى قوله
¥