فقير وصفه الأعمى، و أطال الشيطان الوقوف عنده و شمّه، ثم قال: ها هو نطحه، فبمجرد ما قال ذلك، صاح الفقير و تواجد و قام يرقص. و قد أشار إلى ذلك أبو العباس أحمد زروق في كتابه "عُدة المريد الصادق" و هو مطبوع، و كنت أحتج على الصوفية بهذه القصة، و ردّ الشيخ زروق لبدعة الرقص، و هما من أقطاب الصوفية و كبارهم، فلم أجد عندهم ما يردون إلا قولهم: (إنا وجدنا آباءنا كذلك يفعلون). و سمعت صوفيا يروي بسنده إلى الشيخ محمد الحراق أنه سُئل عن الرقص، و كان شديد الولع به، فقال: هذا شيء أوصانا عليه أشياخنا، لا نتركه و لو طارت عليه أمخاخنا. و قد سبق النقل عن الشيخ الزمزمي في كتابه (الزاوية) روايته عن شقيقه أبي البيض أنه رقص وتواجد بالزاوية حتى خلع جلابته (و هي لا تساوي بصلة على حد تعبير الشيخ محمد الزمزمي)، فبيعت بالدلالة بخمسمائة ريال فضي، اشترى بها أبو البيض دُويرتين.
و هذا البلاء قديم، فقد رأيت الضياء المقدسي صاحب (الأحاديث المختارة) و هو من أهل القرن السادس و السابع عقد في رسالته النافعة "اتباع السنن و اجتناب البدع" و هي مطبوعة باباً لما يكره من الرقص و نحوه، أورد فيه آثاراً و أخباراً منها ما هو مشهور كقول الشافعي رحمه الله: (تركت بالعراق شيئا يسمونه: التغبير، وضعته الزنادقة، يشغلون به الناس عن القرآن). و التغبير تهليل و ترجيع صوت، و هو: السماع. و قد سئل الإمام أحمد عنه و قيل له: إنه يرق عليه القلب؟ فقال: هو بدعة. و روى الضياء عن أبي الحارث الأولاسي أنه قال: رأيت إبليس في النوم بأولاس، و هو جالس، و عن يمينه جماعة، فقال إبليس لطائفة منهم: قولوا شيئا –و كانوا على شيء من السماع- فأخذوا في القول، قال أبو الحارث: فاستغرقتني الغيبة حتى لعلي كدت أطوّح نفسي من السطح، ثم اِلتفت إلى طائفة أخرى فقال لهم: ارقصوا فرأيتهم يرقصون و يشيرون في الرقص إلي إشارات حسنة و يزعقون و يصيحون حتى تحيرت، ثم قال لي إبليس: يا أبا الحارث، أليس هذا حسنا؟ قلت: بلى، قال: ما أصبت شيئا أدخل عليكم به ليكون لي عليكم سلطان إلا هذا، فخرجتْ شهوة السماع من قلبي، فما سمعت بعدها، ثم أورد الضياء رحمه الله أشعارا في ذم الصوفية و رقصهم، و منها قصيدتان رأيت إثباتهما لما فيهما من صادق الوصف حتى كأنه يصف صوفية العصر، و هما للرجل الصالح أبي العباس أحمد ابن الجاجة رحمه الله قال في الأولى، و هي بائية من البسيط:
يا سائلي عن طريق الفضل و الأدب ** عن معشر فعلهم أدى إلى العطب
قوم إلى راحة استأنسوا و نأوا ** عن التكسب بين الناس و التعب
قالوا بلا سبب: الله رازقنا ** و الله رازفنا بالسعي و السبب
أليس مريم رب العرش قال لها: ** هُزي إليك بجذع يانع الرطب
و لو يشاء أتاها رزقها رغداً ** من غير ما تعب منها و لا نصب
و كان رزق رسول الله جاعله ** رب البرية تحت القعص و القُضُب
و باكروا اللهو و اللذات، و اتخذوا ** لهو الحديث لهم دينا مع الطرب
إذا ما أتوا منزلا قالوا لصاحبه: ** قَبِّلْ يد الشيخ ذي الإكرام و الأدب
هذا له نظرٌ، هذا له هممٌ ** له الكرامات بين العجم و العرب
يمشي على الماء يطوي الأرض قاطبة ** و فاتح كل باب مغلق أَشِبِ
اطلب رضا الشيخ و انظر أين مذهبه ** و ليس مذهبه إلا إلى الذهب
هذا و قد جاء بالمعلوم فابتدروا ** مُحسِّرين عن الأيدي على الركب
كل امرئ منهم في الأكل معضلة ** و مرجف الأرض يوم الروع بالهرب
إذا تغنى مغنيهمْ سمعت لهمْ ** صراخ قوم رُموا بالويل و الحَرَبِ
ما زال ليلهمُ رقصاً فإن تعبوا ** تطارحوا في زوايا البيت كالخُشُبِ
ضرب القضيب مدى الأيام شغلهم ** و الرقص دأبهم و الضرب في القرب
قالوا: لنا مذهب، و هْو الحقيقة لا ** نقول بالشرع ثم الدرس في الكتب
و لا نريد من الرحمن جنته ** و لا نخاف لظى جاءت على غضب
فهل بهذا كتاب الله أخبرنا؟ ** و جاءت الرسل بالترغيب و الرهب؟
زاروا النساء و واخَوْهُنّ هل عُصِموا ** منهن أم أمنوا من طارق النُّوَبِ
نسوا قضية هاروت و صاحبه ** ماروت إذ شربا كأسا من العطب
و همّ يوسف لولا أن رأى عجبا ** بُرهان خالقه فاعجب من العجب
و نظرة تركت داود ذا حُرقٍ ** على خطيئته باكٍ أخا كُرَبِ
¥