وشكَّ فيما حفظه وأتقنه، وارتاب بشهوده وإنْ عدّلتهم المحبّة، وجَبُن عن إظهار حُجَجه وإن لم تكن فيها غميزة، وتحامتك الخواطر فلم تقدم عليك إلا بعد الثقة، وهابتك الألسُنُ فلم تعرض لك إلا في الفَرْط والنُّدْرة.
(غالب متأخري زماننا من هذا النوع .. !!)
وما زلتُ أرى أهل الأدب – منذ ألحقتْني الرغبةُ بجملتهم، ووصلَتِ العنايةُ بيني وبينهم - في أبي الطيب أحمد بن الحسين المتنبي فئتين:
- من مُطنب في تقريظه، منقطع إليه بجُملته، منحطّ في هواه بلسانه وقلبهِ، يلتقي مناقِبه إذا ذُكرت بالتعظيم، ويُشيع محاسنه إذا حُكيت بالتفخيم، ويُعجَب ويعيد ويكرر، ويميل على من عابه بالزِّرايَة والتقصير، ويتناول من يَنْقُصُه بالاستحقار والتجهيل؛ فإن عثر على بيت مختلّ النظام، أونِبَه على لفظ ناقص عن التمام التزم مِنْ نُصْرَة خطئه، وتحسين زَلَلَه ما يزيله عن موقف المعتذر، ويتجاوز به مقام المنتصر.
- وعائبٍ يروم إزالتَه عن رُتبته، فلم يسلِّم له فضله، ويحاول حَطَّه عن منزلةٍ بوّأه إياها أدبُه؛ فهو يجتهد في إخفاء فضائله، وإظهار مَعايبه، وتتبع سقطاته، وإذاعة غفلاته.
وكلا الفريقين إما ظالم له أو للأدب فيه؛ وكما أن الانتصار جانبُ من العدْل لا يسدّه الاعتذار؛ فكذلك الاعتذار جانب هو أولى به من الانتصار، ومن لم يفرِّق بينهما وقفت به المَلاَمةُ بين تفريط المقصّر، وإسراف المفْرِط؛ وقد جعل الله لكل شيء قدرْا، وأقام بين كل حديث فَصْلا؛ وليس يطالَب البشر بما ليس في طبع البشر، ولا يُلْتَمس عند الآدميّ إلا ما كان في طبيعة وَلدِ آدم؛ وإِذا كانت الخلقة مبنيةً على السهو وممزوجة بالنسيان؛ فاستسقاط من عزَّ حالُه حيْف، والتحاملُ على من وُجِّه إليه ظلم.
(أيُّ الرجال المهذّبُ)
وللفضل آثارٌ ظاهرة، وللتقدم شواهدُ صادقة، فمتى وُجِدتْ تلك الآثار، وشُوهدت هذه الشواهد فصاحبها فاضل متقدم؛ فإن عُثِر له من بعدُ على زلّة، ووجدت له بعَقِب الإحسان هفْوة انتُحِل له عذرٌ صادق، أو رُخصة سائغة؛ فإن أعوز قيل: زلّة عالم، وقلَّ من خلا منها، وأيُّ الرجال المهذب! ولو لا هذه الحكومة لبطل التفضيل، ولزال الجَرْح ولم يكن لقولنا فاضل معنى يوجد أبداً، ولم نَسِمْ به إذا أردنا حقيقة أحداًً، وأيّ عالم سمعت به ولم يزلّ ويغلط!.
(آثار العصبية المقيتة)
العصبية ربما كَدَّرَت صفو الطبع، وفَلَّتْ حَدَّ الذهن، ولَبَّستِ العِلْم بالشك، وحَسَّنَتْ للمنْصِف الميل؛ ومتى اسْتَحْكَمَتْ ورَسخت صَوَّرَتْ لك الشيء بغير صورته، وحاَلَتْ بينك وبين تأمله؛ وتخطَّتْ بك الإحسانَ الظاهِرَ إلى العَيْبِ الغامض.
وما مَلَكَتِ العصبيَّةُ قَلْباً فتركت فيه للتثبت موضعاً؛ أو أبْقَتْ منه للإنصاف نصيباً.
(ترك المألوف من الصعوبة بمكان)
يقول الجرجاني (في المصدر السابق ص: 50): وما أكثر من ترى وتسمع من حفاظ اللغة ومن جِلة الرواة، من يلهج بعيب المتأخرين؛ فإن أحدهم ينشد البيت فيستحسنه
يقول ابن قتيبة (عيون الأخبار 1/ 48):
من شأن عوام الناس رفع المعدوم ووضع الموجود، وتعظيم المتقدم وغفران زلته وبخس المتأخر والتجني عليه، والعاقل منهم ينظر بعين العدل لا بعين الرضا ويزن الأمور بالقسطاس المستقيم.
يقول الأستاذ الدكتور/ عبد الكريم بكّار (جدد عقلك 47 - 48):
من الواضح أننا لا نرتاح للأشخاص الذين يحملوننا على الشك فيما نعتقد أنه حقيقة لا تقبل الجدل، كما أننا لا نرغب في سماع الأخبار أو قراءة الكتب التي تزعزع رؤانا للواقع والتاريخ والمستقبل.
وأعتقد أن خضوعنا لهذه المشاعر كثيراً ما يقف عائقاً في وجه الوصول إلى الحقائق الصافية أو شبه الصافية؛ ومن منا ذلك الذي يُبدي استعداداً وتقبلاً للبحث في الأخطاء التي ارتكبها أشخاص نعتقد أنهم نماذج رفيعة وقدوات حسنة في ماضي الأمة وحاضرها؟!
إن من الواضح أن السواد الأعظم منا غير مستعدين لتغيير مألوفاتهم والنظر فيما يعدونه مسلّمات لديهم، كما أن كثيرين أيضاً غير قادرين على ترك مسافة جيدة بين جهاز التفكير والمحاكمة العقلية لديهم، وبين ما يُعتقد أنه ساهم في تكوين ذلك الجهاز، أي القيام بتمحيص المعلومات والأفكار التي كوَّنت رؤانا وانطباعاتنا عن الحياة والأحياء؛ مع أن الوصول إلى اكتشاف الحقيقة لا يتم من غير توفير نشاط نقدي جيد، نحاول من خلاله اكتشاف بعض الأخطاء التي وقعنا فيها أثناء استخلاصنا للحقيقة من بين أكوام الأخبار والمعلومات المتوفرة.