تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

قلنا: لا ريب أن هذا الكلام قد يطلقه كثير من أهل النظر، كالقاضي أبي بكر وابن عقيل والمازري ونحوهم، وقد أطلقه قبلهم كثير من متكلمة المعتزلة وغيرهم، وقد أنكر ذلك عليهم كثير من أرباب النظر وقالوا: العلم بالعدم غير عدم العلم، وعدم الدليل غير دليل العدم، وهذا قول أكثر الفقهاء وأهل الحديث وأهل الكلام.

وفصل الخطاب أن نقول: لا يخلو إما أن يكون الموضع مما أوجب الله علينا فيه العلم، أو أوجبت مشيئته وسنته فيه العلم، وإما أن لا يكون مما يجب فيه العلم لا شرعاً ولا كوناً.

فإن كان الأول مثل ما أوجب الله علينا أن نعلم أن لا إله إلا هو، وأن الله شديد العقاب، وأن الله غفور رحيم، وأنه على شيء قدير، وأنه قد أحاط بكل شيء علماً، فلا بد أن ينصب سبباً يفيد هذا العلم، لئلا يكون موجباً علينا ما لا نقدر على تحصيله، وأن لا يكلفنا ما لا نطيقه له إذا أردنا تحصيله. ففي مثل هذا إذا لم يكن الدليل موجباً للعلم لم يكن صحيحاً. وكذلك ما اقتضت مشيئته وسنته العلم به، مثل الأمور التي جرت سنته بتوفر الهمم والدواعي على نقلها نقلاً شائعاً، فإذا لم ينقل فيعلم انتفاؤها وكذب الواحد المنفرد بها.

وأما ما لم يجب فيه العلم لا وجوباً دينياً ولا وجوباً كونياً فلا يعلم

(1/ 51)

بطلان ما أفاد فيه غلبة الظن، فإن اليقين له أسباب، وللظن الغالب أسباب، والتكذيب بما لم يعلم أنه كذب مثل التصديق بما لا يعلم أنه صدق، والنفي بلا علم بالنفي مثل الإثبات بلا علم بالإثبات، وكل من هذين قول بلا علم. ومن نفى مضمون خبر لم يعلم أنه كذب فهو مثل من أثبت مضمون خبر لم يعلم أنه صدق، والواجب على الإنسان فيما لم يقم فيه دليل أحد الطرفين أن يسرحه إلى بقعة الإمكان الذهني، إلى أن يحصل فيه مرجح أو موجب، وإلا يكون قد سكت عما لم يعلم، فهو نصف العلم. فرحم الله امرأ تكلم فغنم أو سكت فسلم (1)، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت (2)، وإذا أخطأ العالم لا أدري أصيبت مقاتله (3).

وإذا كان كذلك فنحن لم يجب علينا قط أن نعلم جميع ما لله من معاني أسمائه ولا نعلم جميع صفاته، ولا أن نعلم صفات مخلوقاته، ولا مقادير وعده ووعيده وصفات ذلك، ولا إحدى سننه، فإن سبب العلم بذلك [قد لا] يكون مشهوراً، ولا قام دليل على نفي ما نعلمه من ذلك، فإذا جاءنا خبر يغلب على الظن صدقه صدقناه في غالب الظن، وإن غلب على الظن كذبه كذبناه، وإن لم يعلم واحد منهما توقفنا فيه.

ويجوز لنا أن نرويه إذا لم نعلم أنه كذب، لكن متى علمنا أنه كذب، لكن متى علمنا أنه كذب


(1) كما في الحديث الذي أخرجه البيهقي في " شعب الإيمان " (4938) عن أنس بن مالك.
(2) أخرجه البخاري (6136،6138) ومسلم (47) عن أبي هريرة.
(3) رواه ابن عبد البر في جامع بيان العلم (2/ 54) من قول ابن عباس وابن عجلان.
(1/ 52)
لم يجز روايته إلا مع البيان، لقوله صلى الله عليه وسلم: " من حدث عني بحديث وهو يعلم أنه كذب فهو أحد الكذابين "، وهو في صحيح مسلم (1).
وأما من قال من ظاهري أهل العلم: إن ما لم يقم على ثبوته من الصفات دليل فإنه يجب نفيه = فإنه مبني على هذا الأصل المتقدم، وقد بينا حكمه.
وأما قولهم: هذا من المسائل العلمية، فلا نتكلم فيها بظن = فهذا لفظ مشترك، قد يراد بالعلمية ما ليس تحته عمل، كما يقول بعضهم: العلوم النظرية والمسائل الخبرية والاعتقادية، وإذا كان المراد بها ذلك لم يجب أن يكون مقطوعاً بها. وقد يراد بالعلمية ما العلم فيها واجب أو واقع، وهو ما يرد فيها ما لم يفد العلم، ولهذا فصلنا ذلك إلى نوعين، والله أعلم.

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير