وقيل لآخر: كيفَ أَصْبَحْتَ؟ فبكى، وقال: أصبحتُ في غَفْلَةٍ عَظِيمَةِ عن الموت مَعَ ذُنُوب كثيرة قد أحاطت بي، وأجلٌ يسرع كل يوم في عمري، ومَوْئِلِ لستُ أدري علامَا أهجم، ثم بكى.
وقال آخر: لا تَغْتَم إلا مِن شيء يَضُرك غدًا (أي في الآخرة) ولا تفرح بشيءٍ لا يَسُركَ غدًا، وأنفعُ الخوف ما حَجَزَكَ عن المعاصي، وأطال الْحُزْنَ مِنْكَ على ما فاتك من الطاعة، وَأَلْزَمَكَ الفِكْرَ في بَقِيةِ عُمرك.
وقال الآخر: عليك بصحبة من تُذَكِّرُك الله عز وجل رُؤيَتُه، وتقع هَيْبَتُه على باطنك، ويزيُدُ في عَملك مَنْطِقُه، ويُزْهِدُكَ في الدُّنْيَا عَمله، ولا تعصي الله ما دُمْتَ في قُربه، يَعِظكَ بِلِسَانِ فِعْلِهِ ولا يَعِظُكَ بِلِسَانِ قَوْلِهِ.
قال إِسرافيل: حضرتُ ذي النون المصري وهو في الحبس وقد دَخل الشُرطي بطعام له، فقام ذُو النون فنفض يده (أي قبضها عن الطعام).
فقيل له: إن أخاك جَاءَ به فقال: إنه على يَدَيْ ظالم، قال: وسمعتُ رجلاً سأله ما الذي أتعبَ العبادَ وأضْعَفَهُم؟
فقال: ذكر المقام، وقلةُ الزاد، وخوفُ الحساب، ولم لا تذوبُ أبدانُ العمال وتذهلُ عُقولُهم، والعرضُ على الله جل وعلا أمامَهم، وقراءة كتبهم بين أيديهم.
والملائكة وقوفٌ بين يدي الجبار يَنْتَظِرونَ أَمْرَهُ في الأخبار والأشرار، ثم مَثَّلوا هذا في نفوسهم وَجَعَلُوه نُصْبَ أَعْيُنِهِم.
وقال: سَقَمُ الجسد في الأوجاع وسقم القلوب في الذنوب، فكما لا يجد الجسد لذة الطعام عند سقمه، كذلك لا يجد القلب حلاوة العبادة مع الذنوب.
وقال: مَن لم يعرف قدر النعم، سُلِبَهَا مِن حَيثُُ لا يعلم.
ما خلع الله على عبد خلعة أحسنَ ولا أشرفَ مِن العقل ولا قلده قلادة أجمل من العلم ولا زينه بزينة أفضل من الحلم وكمال ذلك التقوى.
وقال آخر: أدركتُ أقوامًا يَسْتَحْيُونَ مِن الله في سَوادِ الليل مِن طُول الْهَجْعَةِ، إِنَّمَا هو على الجنب فإذا تَحَرَّك قال لنفسه: لَيْسَ لك قومي خُذِي حَظَّكِ مِن الآخِرَةِ.
وقال أبو هاشم الزاهد: إن الله عز وجل وَسَمَ الدنيا بالوحشة، ليكن أنْسُ المريدين به دونها، وليُقْبل المطيعُونَ له بالإعراض عنها، وأهْلُ المعرفة بالله فيها مُسْتَوْحِشُون، إلى الآخرة مُشْتَاقُون.
ونظر أبو هاشم إلى شريك القَاضي يَخْرجُ مِن دَارِ يحيى بن خالد فبكى وقال: أعوذ بالله من عِلْمٍ لا ينفع.
وقال أسود بن سالم: ركعتان أصليهما أحب إلي من الجنة بما فيها. فقيل له: هذا خطأ، فقال: دَعُونَا من كلامكم، رَأَيْتُ الْجَنَّةَ رضا نَفْسِي، وركعتين أصليهما رضا رَبي، ورضاء ربي أَحَبُّ إِليَّ مِن رضا نفْسِي، تأمل يا أخي دقَّةَ هذا الفهم لله دره.
وقال وهيب: الإيمان قائد، والعمل سائق، والنفس بينهُما حَرون، فإذا قادَ القائدُ ولن يَسُقِ السَّائِقُ لم يُغن ذلك شيئًا.
وإذا سَاقَ السائقُ ولم يقد القائد لم يغن ذلك شيئًا، وإذا قادَ القَائِدُ وساقَ السائقُ اتَّبَعَتْهُ النفسُ طوعًا وكرهًا وطابَ العملَ.
قال بعضهم يوبخ نفسه ويعظها: يا نَفْسُ بادري بالأوقاتِ قبل انصرامها، واجتهدِ في حراسة لَيَالي الحياة وأيامها، فكأنكِ بالقبور قد تشَقَّقَتْ وبالأمور وقد تَحَقَّقَت، وبوجوه المتقين وقد أشرقت، وبرؤوس العصاة وقد أطرقت، قال تعالى وتقدس: ? وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ ?، يا نفس أما الوَرعُونَ فقد
جَدُّوا، وأما الخائفون فقد استعدوا، وأما الصالحون فقد فرحوا وراحوا وأما الواعظون فقد نصحوا وصاحوا.
العلم لا يحصل إلا بالنصب والمال لا يجمع إلا بالتعب، أيها العبد الحريص على تخليص نفسه إن عزمت فبادر وإن هممت فثابر واعلم أنه لا يدرك العز والمفاخر من كان في الصف الآخر.
¥