وعرفه الإمام الشافعي بقوله: ((ليس الشاذ من الحديث أن يروي الثقة ما لا يرويه غيره هذا ليس بشاذ إنما الشاذ أن يروي الثقة حديثاً يخالف فيه الناس هذا الشاذ من الحديث. ذكره الحاكم بإسناده عنه بعد تعريفه)) ().
وهذا التعريف الأخير هو الذي اختاره العلماء قديماً وحديثاً وكان العمل في رد ما خالف فيه الثقة لا ما انفرد به غير مخالف.
قال ابن الصلاح: ((قلت: أمَّا ما حكم الشافعي عليه بالشذوذ فلا إشكال في أنه شاذٌّ غير مقبول، وأما ما حكيناه عن غيره فَيُشْكل بما يتفرد به العدل الحافظ الضابط كحديث: ((إنما الأعمال بالنيات)) فإنه حديث فرد تفرد به عمر رضي الله عنه عن رسول الله ?، ثم تفرد به عن عمر علقمة بن وقاص، ثم عن علقمة محمد بن إبراهيم، ثم عنه يحيى بن سعيد على ما هو الصحيح عند أهل الحديث.
وأوضح من ذلك في ذلك: حديث عبدالله بن دينار عن ابن عمر ((أن النبي ? نهى عن بيع الولاء وهبته)) تفرد به عبدالله بن دينار.
وحديث مالك عن الزهري عن أنس ((أن النبي ? دخل مكة وعلى رأسه مغفر)) تفرد به مالك عن الزهري، فكل هذه مخرجة في الصحيحين مع أنه ليس له إلا إسناد واحد تفرد به ثقة.
وفي غرائب الصحيح أشباه لذلك غير قليلة، وقد قال مسلم بن الحجاج:
للزهري نحوٌ من تسعين حرفاً يرويه عن النبي ? لا يشاركه فيها أحد بأسانيد جياد. والله أعلم.
فهذا الذي ذكرنا وغيره من مذاهب أئمة الحديث يبين لك أنه ليس الأمر في ذلك على الإطلاق الذي أتى به الخليلي والحاكم بل الأمر على تفصيل نبيّنه)) ().
فالذي اصطلح عليه العلماء هو قول الشافعي -رحمه الله- في تعريف الشاذ وهو: ما رواه الثقة مخالفاً لمن هو أرجح منه. قال ابن حجر: ((فإن خولف أي الراوي بأرجح منه، لمزيد ضبط أو كثرة عدد أو غير ذلك من وجوه الترجيحات فالراجح يقال له: المحفوظ، ومقابله -وهو المرجوح- يقال له: الشاذ)) ().
والشذوذ يدخل في العلة الخفية لأنه قد لا يظهر لعامة الناس إلا بعد جمع طرق الحديث والنظر في اختلاف الرواة والاختلاف عليهم من الرواة عنهم.
قال الخطيب البغدادي: ((السبيل إلى معرفة علة الحديث أن يجمع طرقه وينظر في اختلاف رواته ويعتبر بمكانهم من الحفظ ومنزلتهم من الإتقان والضبط)) ().
وقال علي بن المديني –رحمه الله-: ((الباب إذا لم تجمع طرقه لم يتبيَّن خطؤه)) ().
وقال عبدالله بن المبارك: ((إذا أردت أن يصح لك الحديث فاضرب بعضه ببعض)) ().
وقال ابن معين: ((لو لم نكتب الحديث من ثلاثين وجهاً ما عقلناه)).
وقال أحمد بن حنبل: ((الحديث إذا لم تجمع طرقه لم تفهمه، والحديث يفسر بعضه بعضاً)) ().
ولا شك أن جمع الطرق المختلفة وموازنة بعضها ببعض، ثم النظر في النقلة واختلافهم ثم وزن هؤلاء بميزان الترجيح كل هذا من مهمة المحدث الجهبذ لا يستطيع أن يقوم به عامة المحدثين ولذلك نجد أفذاذاً وأفرادًا معدودين قد دخلوا في هذا المضمار وسدد الله أقوالهم ووفقهم لتقعيد قواعد في معرفة الصحيح من حديث رسول الله ? على قواعد فطرية تقبلها العقول السليمة.
كما نجد أن هذا العلم وهو معرفة الخطأ من الصواب في روايات الراوي يحتاج إلى سبر روايات الراوي الواحد، بحيث يقدر الإمام المحدث أن يقول: روى حديثين أو ثلاثة أو عشرة.
ثم عرض روايته على روايات غيره ممن هم أصوب منه، حفظاً ونقلاً ومعرفة موافقة بعضهم لبعض أو مخالفتهم، أعظم وسيلة لمعرفة الخطأ من الصواب.
قال ابن حبان: ((سمعت محمد بن إبراهيم بن أبي شيخ الملطي يقول: جاء يحيى بن معين إلى عفان ليسمع منه كتاب حماد بن سلمة فقال: ما سمعتها من أحد؟ قال: نعم حدثني سبعة عشر نفساً عن حماد بن سلمة فقال: والله لا حدثتك. فقال: إنما هو وهم، وانحدر إلى البصرة واسمع من التبوذكي فقال: شأنك فانحدر إلى البصرة وجاء إلى موسى بن إسماعيل فقال له موسى: لم تسمع هذه الكتب عن أحد؟ قال: سمعتها على الوجه من سبعة عشر نفساً وأنت الثامن عشر فقال: وماذا تصنع بهذا؟ فقال: إن حماد بن سلمة كان يخطئ فأردت أن أميز خطأه من خطأ غيره، فإذا رأيت أصحابه قد اجتمعوا على شيء علمت أن الخطأ من حماد نفسه، وإذا اجتمعوا على شيء عنه، وقال واحد منهم بخلافهم، علمت أن الخطأ منه لا من حماد فأميز بين ما أخطأ هو بنفسه وبين ما أخطئ عليه)) ().
¥