مثال الانقطاع الذي فيه إمكان الانقطاع وعدمه: ما رواه مدلّس، مثل: أبي إسحاق السبيعي، روى الترمذي قال: حدثنا عبدُ بن حميد، قال: حدثنا عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن البراء بن عازب، قال: مات رجال من أصحاب النبي ? قبل أن تُحرّمَ الخمر، فلما حُرّمت الخمر قال رجال: كيف بأصحابنا وقد ماتوا يشربون الخمر. فنزلت: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ إِذَا مَا اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [المائدة:93]، ثم قال: هذا حديث حسن صحيح، وقد رواه شعبة عن أبي إسحاق عن البراء بن عازب.
فنرى أن الترمذي يحسن ويصحح الحديث، وذكر -فيما يظهر والله أعلم- رواية شعبة عن أبي إسحاق بعدها متابعة لإسرائيل لرفع الاختلاط والتدليس عن أبي إسحاق في هذا الحديث؛ لأن شعبة كان أشد الناس على التدليس والمدلسين، ولأنه سمع من أبي إسحاق قبل اختلاطه فيما يظهر.
فقال حدثنا بندار، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة عن أبي إسحاق قال: قال البراء فذكره ثم قال: هذا حديث حسن صحيح.
ولكن هنا خفي الاتصال، وظهر للناظر فيه أن شعبة لم يكن يروي عن المدلسين ومن أوثق الناس فالحديث صحيح، ولكن قد ظهر الانقطاع الخفي بعد جمع الطرق، فقد روى أبو يعلى في مسنده بعد إخراجه هذا الحديث: شعبة قال لأبي إسحاق: أسمعته من البراء؟ قال: لا (). وعليه فالحديث منقطع.
وهذا النوع من الانقطاع الخفي.
وأخرجه الدارقطني في سننه () من ثلاث طرق:
الأولى: من طريق معاوية بن سعيد التُجيببي ثنا الزهري عن أم عبدالله الدوسية.
الثانية: من طريق الحكم بن عبدالله بن سعد عن الزهري عن أم عبدالله الدوسية قالت: سمعت رسول الله ? يقول: ((الجمعة واجبة على أهل كل قرية وإن لم يكونوا إلا ثلاثة رابعهم إمامهم)).
وقال الدارقطني في الثانية أي التي فيها التحديث: لا يصح هذا عن الزهري، كل من رواه عنه متروك.
وقال في الثالثة: الزهري لا يصح سماعه من الدوسية، والحكم هذا متروك ().
فهنا قد يخفى هذا الانقطاع، فإن الزهري وصف بتدليس قليل وبخاصة مع تصريح التحديث في بعض الروايات، فهذا النوع من الانقطاع الخفي داخل في العلة.
ومن أمثلة العلة في اتصال السند إذا ثبت الانقطاع فيه وظاهره السلامة منه:
ما رواه أبو داود: قال حدثنا أحمد بن محمد بن حنبل والحسن بن علي قالا: ثنا عبدالرزاق -قال أحمد- ثنا معمر أخبرني أشعث، وقال الحسن: عن أشعث بن عبدالله عن الحسن عن عبدالله بن مغفل قال: قال رسول الله ?: ((لا يبولن أحدكم في مستحَمِّه ثم يَغْتَسِل فيه))، وفي رواية: ((ثم يتوضأ فيه فإن عامة الوسواس منه)) ().
قال الحاكم في المستدرك: ((صحيح على شرطهما))، ووافقه الذهبي ().
وقال المنذري في الترغيب: ((إسناده صحيح متصل)).
وهذا الإسناد الذي حكموا عليه بالصحة لا شك أن رجاله ثقات ولكن له علة خفية، وهي عنعنة الحسن وهو البصري.
قال الذهبي فيه: ((كان الحسن البصري كثير التدليس، فإذا قال في حديث: عن فلان، ضَعُفَ احتجاجه، ولا سيما عمن قيل: إنه لم يسمع منهم كأبي هريرة ونحوه)) ().
وهو وإن كانوا قد ذكروا له سماعاً من عبدالله بن مُغَفَّل، فليس معنى ذلك أن كل حديث له عنه موصول سمعه منه، بل لا بُدّ من تصريحه بالسماع من كل صحابي، يروي عنه ليكون حجة خالياً من عِلَّةٍ، هذا هو الذي يقتضيه علم مصطلح الحديث ().
ومن أمثلته: قال مُهنّا قلت لأحمد ويحيى: حدثوني عن عبدالمجيد بن أبي روّاد عن عبيد الله بن عُمر عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله ?: ((لكل أمة فرعون، وفرعون هذه الأمة معاوية بن أبي سفيان))، فقالا جميعاً: ليس بصحيح، وليس يعرف هذا الحديث من أحاديث عبيد الله ولم يسمع عبدالمجيد بن أبي روَّاد من عُبيد الله شيئاً، ينبغي أن يكون عبدالمجيد دلّسه سمعه من إنسان فحدث به ().
والانقطاع في الإسناد سبب مضعف للحديث كما هو واضح وهو قد يكون ظاهراً وقد يكون خفياً.
وهنا علّل الأئمة في الأحاديث المذكورة لخفاء الانقطاع.
¥