ومن أمثلته ما ذكره الحاكم في "معرفته" بإسناده عن موسى بن عقبة عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي ? قال: ((من جلس مجلساً كثر فيه لغطه فقال قبل أن يقوم: سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك إلا غفر له ما كان في مجلسه ذاك)).
قال أبو عبدالله: ((هذا حديثٌ مَنْ تأمَّله لم يشك أنه من شرط الصحيح، وله علة فاحشة، ثم ذكر بإسناده أن مسلماً جاء إلى محمد بن إسماعيل البخاري فقبَّل بين عينيه وقال: دعني حتى أقبِّل رجلك يا أستاذ الأستاذين وسيد المحدثين، وطبيب الحديث في علله، فذكر الحديث بإسناد البخاري فقال محمد بن إسماعيل: هذا حديث مليح، ولا أعلم في الدنيا في هذا الباب غير هذا الحديث إلا أنه معلول، حدثنا به موسى بن إسماعيل قال: حدثنا وهيب قال: ثنا سهيل عن عون بن عبدالله قوله، قال محمد بن إسماعيل: هذا أولى فإنه لا يذكر لموسى بن عقبة سماعٌ من سهيل)) ().
وكان الانقطاع هنا خفيّاً جداً، حتى أظهره أمير المؤمنين في الحديث: البخاري؛ لأن سهيلاً وموسى بن عقبة متعاصران، فقد مات سهيل بن أبي صالح سنة 138ه تقريباً، ومات موسى بن عقبة قريباً من سنة 141ه، وسهيل لم يوصف بالتدليس فيما أعلم، وأما موسى بن عقبة فقد تُكلِّم في روايته عن الزهري فقط، ولم يتكلم أحد في روايته عن سهيل، وكلاهما مدني، فتعليل البخاري الحديث بالانقطاع بينهما -وقد كان خفياً شديداً- له اعتباره، فقد خفي هذا الانقطاع حتى على مسلم رحمه الله.
ويدخل في علة الانقطاع روايات شيوخ ثقات قد سمعوا من شيوخهم أحاديث كثيرة فإذا روى أحدهم من أحد شيوخه حديثاً لم يسمع منه، خفي على الناظر عدم السماع وحكم على الحديث بالاتصال والصحة في حين أن الحديث فقد شرط الاتصال.
وهذا النوع من العلة لا يظهر إلا للجهابذة الذين يتتبعون روايات الشيخ واحدة واحدة.
قال الإمام أحمد: قال سفيان: قلت لرجل: سل زيداً -يعني ابن أسلم- سمعته من عبدالله -يعني ابن عمر- حديث: ((دخل النبي ? مسجد بني عمرو ابن عوف، وهِبْتُ أن أسأله، فقال: يا أبا أسامة سمعتَه من عبدالله بن عمر؟ فقال: أما أنا فقد رأيته وكلّمته)).
قال أحمد أيضاً: حدثنا سفيان قال: حدثنا عمرو بن يحيى بن عمارة بن أبي حسن المازني عن أبيه عن عبدالله بن زيد، أن النبي ? توضأ ().
قال سفيان حدثنا يحيى بن سعيد عن عمرو بن يحيى منذ أربع وسبعين، فسألت بعد ذلك بقليل، فكان يحيى أكبر منه.
قال أحمد: قال سفيان: سمعت منه ثلاثة أحاديث، وسمعت أنا هذا الحديث من سفيان ثلاث مرار.
قال: قال سفيان: لم أسمع منه حديث عمرو بن يحيى عن أبيه عن النبي ? في الحمّام والمقبرة. قال الإمام أحمد: قد حدثنا به سفيان دلّسه ().
وأخرج الترمذي من طريق إبراهيم النخعي عن عمرو بن ميمون عن أبي عبدالله الجدلي عن خزيمة بن ثابت عن النبي ? أنه سئل عن المسح على الخفين، فقال: ((للمسافر ثلاثة وللمقيم يوم))، ثم قال: وقد روى الحكم بن (عتيبة) وحماد عن إبراهيم النخعي عن أبي عبدالله الجدلي عن خزيمة بن ثابت، ولا يصح.
وقال: قال علي بن المديني: قال يحيى بن سعيد: قال شعبة: لم يسمع إبراهيم النخعي من أبي عبدالله الجدلي حديث المسح ().
الفصل الرابع: في ذكر أمثلة وقعت العلة فيها
لأجل الشذوذ
وأما الشذوذ فقد مضى تعريفه، كما مضى ذكر الراجح في تعريفه، وهو: اشتراط مخالفة الراوي الثقة لمن هو أوثق منه، أو مخالفته جماعة من الثقات.
وهذا السبب كاد أن يكون هو السبب الغالب في إثبات علة الحديث، لذا نرى الأئمة إذا ذكروا حديثاً في بعض الأحيان من طريق واحد أو إسناد خاص أو ذكروا المتن بلفظ خاص فيحشدون لَه طرقاً كثيرة لإثبات العلة وتعيين الصواب فيه.
وهذه سيما يتميز بها كتاب "العلل" للدارقطني، ومن قبل كتاب "التمييز" للإمام مسلم رحمه الله.
والشذوذ قد يكون في الإسناد بذكر راوٍ تفرد عنه أحد الرواة في حين خالفه الأكثرون.
وقد يكون في المتن برفع موقوف أو وقف مرفوع أو إرسال موصول، أو وصل مرسل.
وقد مضى قول الأئمة: السبيل إلى معرفة علة الحديث أن تجمع بين طرقه وتنظر في اختلاف رواته وتعتبر أي الخطأ والصواب بمكانهم من الحفظ.
وقال ابن المديني: ((الباب إذا لم تجمع طرقه لم يتبين خطؤه)) ().
¥