والطريف أن ما وقع للمتنبّي في شعره من الشذوذ والعدول عن الواضح في أحكام الإعراب إلى ما يكون فيه بعض الشذوذ والتعسُّف قد وقع لغيره ما [هو] أشنع وأقبح، ثمَّ خُصَّ بالتعريف وفَرْط التعسُّف والردّ، وذلك من أسباب السعادة. فلمّا لم يُجِد المتعصِّب عليه في الوضع منه لم يُجِد متعصِّب له في رفعه والتنويه من إخراج دقائق شعره، ولما عَظُم صيتُه بالتنصف في كلامه، حتَّى يكون الذي يعرف ديوانه أنَّه يضرب في العلم بالمعاني ويتسنَّم فيه الذروةَ العُلْيا. ولله درُّه حيث قال:
رُبَّ أمرٍ أتاكَ لا تَحْمدُ الـ ـفُعّالَ فيه وتَحْمدُ الأفعالا
فكم من رجل [أراد] هَدْمَ مَنَارِه فشَيَّده، وقصد إطفاءَ جَمْرِه فأوقده. وقد ترى كثيراً من الناس يزعمون أن ابن جِنِّي نوَّه بذكره حيث صنَّف في شعره. فهلاّ قالوا إن تصنيفه في معانيه هو الذي عرَّفه إلى كثير ممَّن يبعد عنه، حتَّى غمر القلوب صيتُه، وصار يعرفه مَنْ لا يعرف أستاذه الشيخ أبا عليّ مع علوّ شأنه. وإنّ ذكره ليطير في الدنيا بجناح الجديدين. فليس عمارة المتنبّي لمعانيه بأقلّ من عمارته لقصائده. هذا، وكان الأمر في شأنه فلم يَقْضِ حقَّه كلّ القضاء، وشحنه بما لا يليق، نحو ذكره إذا جرى ذكر الذئب في بيت له جميعَ أسمائه، وترك كثيراً ممَّا يُشكل في إعرابه ومعانيه. وممَّا يَدُلُّ على أن أبا الفتح ازداد صيتاً بالمتنبّي أن له كتباً شريفة في النحو والتصريف، ثمَّ لا تكادا تجد أحداً - إذا جاوزت الخواصّ من الناس - يعرفه بواحد منها، بل تكون تلك الكتب كلها عيالاً في التعريف على كتابه في ديوانه، فيقال: هذا كتاب فلان الذي شرح ديوان المتنبّي!
وأبهرُ آياتِ التِّهاميِّ أنه أبوكَ وإحدى ما لكم من مَناقبِ
يعني بالتهامي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، يقول: إنَّك فخر له، وكونه أباً لك إحدى فضائلك. فأقول: قبَّح الله وجهَ مثله! فقد ألبس هذا الرجل من المدح ما غسَّله بماء الشرف والمعالي، ثمَّ كرَّ عليه بما غمسه في بحر المخازي. وحُقَّ لمَنْ يُقصد بهذا المدح أن ينشد فيه قوله
والشعرُ لا يَسْطيعه مَنْ يظلمُهْ يريد أن يُعربه فيُعجمُهْ
والعجب أنَّه لم يُقْنعه جعلُه فخرَ النبي صلّى الله عليه وسلّم حتَّى قال إنه إحدى مناقب لكم، وقال التهامي كما يقال في الرجل المجهول. ومثل هذا مثل مَنْ يقول عكس قولنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أفضل البَريَّة، ومَنْ قال ذلك فقد خالف قول الله عزَّ وجلّ. وما هذا إلا صفة المُلْحد. ولو يخلّص قصيدته من وصمة هذا البيت - الذي قَدَّ أديمه من جلد الشقاوة وتناول معناه من يد الضعة والخساسة - لكانت مُقدَّمةً في حلبة المراهنة ومحكوماً بالغلب في ميدان المسابقة. لكن بسببه عفّى على محاسنها تعفية السيل لوشي الأقلام. ولولا أن امرأ القيس يُفسَّر شعره ويُدرس مع كفره لكان كلّ مسلم جديراً بأنَّ يُعرض عن كلام هذا الرجل لأجل هذا البيت الواحد.
وحكى شيخنا رحمه الله عن الشيخ أبي عليّ أن المتنبّي كان ينشد قول الشاعر:
فلا لغوٌ ولا تأثيمَ فيه وما فاهوا به لهمُ مُقيمُ
وقوله إن لفظ القرآن قد جاء في الشعر، وأنتم تقولون إنه لا نظير له. قال: وكان يتلاحد.
وهذا البيت الذي أفضنا فيه يقرر ذلك ويؤكد، وليس يصدر مثله من صدر مؤمن، ولا يبثّه إلا فؤاد شرب من منهل الكفر. على أن العقائد لا يُتوصَّل إلى حقائقها.
هذا، وهو كثير القصد للهزء، والشاعر عادته التهوّر، ولكن هذا عظيم الشناعة. وقد نعى الناس على أبي نواس قوله:
كيف لا يُدنيك من أملٍ مَنْ رسول الله من نَفَرِهْ
واستُهجن لأجل أنَّه أضاف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقالوا: الواجب أن يُضاف إليه صلّى الله عليه لا أن يُضاف إلى غيره إذ فخر العالم به. وبينه وبين المتنبّي ما بين العيّوق ووجه الثرى، لأن جعل كون رسول الله صلّى الله عليه، ثمَّ جعل ذلك أبهر آياته، وجعل كون النبي عليه السلام أباً له واحدة من مفاخره. وأيضاً فإن بيت أبي نواس لو حُقِّقَ لم يقبُح ...
... وعلى هذه النكتة وضع القاضي كتاب الوساطة، وعليه أجرى قضاياه فيه؛ فإنه يقول أبداً: إن الشعر لا يحسُن بالمحاجّة. وكتابه هذا من محاسن الشعر ثمَّ من مفاخر المتنبّي. ولو أن أبا الطيّب لم يكن قد أفاد حَمَلة الأدب وأهل الفضل إلا أنَّه كان سبب هاتيك المحاسن التي تضمَّنها لقد كان أفادهم عظيماً وفتح لهم عن كثير جليل.
وَأنَّ مَدِيحَ النَّاسِ حَقٌ وَبَاطِلٌ وَمَدْحَكَ حَقٌّ لَيْسَ فِيهِ كِذَابُ
... وقد لعب به في هذه الأبيات لعبَ الصبيّ بالعصفور المقصوص، يطلقه مرةً ويأخذه أخرى! وما ذكره من التصحيف في الذئاب والذباب إنَّما حمله عليه الهُزْء، وإلا فهذا النحو ليس من طريقته لأن حديث الجدّ أغلب عليه، وطبعه في الكلام الجزل أذهب.
تبخل أيدينا بأرواحنا عَلى زَمَانٍ هِيَ مِنْ كَسْبِهِ
لعلَّ مَنْ يتتبَّع المتنبّي في حديث المذهب يأخذ هذا عليه فيقول إنه جعل ذلك من كسب الزمان مثلاً إلى حديث الطبع. وليس فيه دليل على ذلك، ولكن تقول كيف يُرجى أن تتخلَّص الأرواح والزمان للكون والفساد وعلى ذلك خلقه الله عزَّ وجلّ؟ فكأنه أخذ الأرواح أخذَ الرجل ما يكسبه من المال. ويجوز أن يريد أن هذه الأرواح حدثت في هذا الزمان، فكيف يُمنع من أخذها؟ ونحو ذا من الكلام أظهر من أن يقتضي تتبُّعَه.
ولعل بعض مَنْ يشمخ أنفه من حديث المتنبّي يقول: انظر إلى هذا التعسّف الذي يقود الناس إلى هذا البسط المُفْرط والتطويل المُبْرم ... فلو كان يجب على المتنبّي أن يأتي بما يفهمه مَنْ لم تَغْبَرَّ قدمُه في العلم لوجب أن يترك العربية إلى الفارسية، فإن ذلك أسهل!
¥