وعلى هذا التعريف يكون المنكر هو الغريب، الذي لا يحتمل تفرد من انفرد به، وهو مردود حتى لو فُرض أن له شواهد من جنسه، فإنه لا يرتقي إلى درجة الحسن، وذلك لأن الضعف فيه متناهي، والتعريف الأول هو الذي مشى عليه الحافظ ابن حجر رحمه الله في كتابه نخبة الفِكر.
قال المؤلفُ رحمه الله:
مَتُروكُهُ ما وَاحِدٌ بهِ انْفَرَدْ ** وأجَمعُوا لضَعْفِهِ فهْوَ كَرَدّ
هذا هو القسم الحادي والثلاثون من أقسام الحديث المذكورة في هذا النظم وهو المتروك، وقد عرفه الناظم بقوله:
(ما واحدٌ به انفرد) يعني أن المتروك هو ما انفرد به واحد، أجمعوا على ضعفه.
والضمير في (أجمعوا) يعود على المحدثين.
قوله (فهو كردّ) أي هو مردود، والكاف زائدة من حيث المعنى. فالمتروك كما عرفه المؤلف، هو: الذي رواه ضعيفٌ أجمع العلماء على ضعفه.
فخرج به: ما رواه غير الضعيف فليس بمتروك، وما رواه الضعيف الذي اختلفوا في تضعيفه.
هذا هو ما ذهب إليه المؤلف.
وقال بعض العلماء ومنهم ابن حجر في النخبة: إن المتروك هو ما رواه راوٍ متهمٌ بالكذب.
فمثلاً: إذا وجدنا في التهذيب لابن حجر، عن شخصٍ من الرواة، قال فيه: أجمعوا على ضعفه، فإننا نسمي حديثه متروكاً إذا انفرد به، لأنهم أجمعوا على ضعفه.
وإذا وجدنا فيه قوله: وقد اتهم بالكذب فنسميه متروكاً أيضاً، لأن المتهم بالكذب حديثه كالموضوع، ولا نجزم بأنه موضوع، ولكن كونه متهماً بالكذب، ينزل حديثه إلى درجة تقرُب من الوضع.
ثم قال رحمه الله تعالى:
والكذبُ الُمخْتَلَقُ المصنُوعُ ** على النبيِّ فذلكَ الموضوعُ
هذا هو القسم الثاني والثلاثون من أقسام الحديث المذكورة في هذا النظم وهو الموضوع.
وقد عرفه المؤلف بقوله: والكذب المختلق. . . إلخ.
يعني هو: الذي اصطنعه بعض الناس، ونسبه إلى النبي صلى الله عليه وسلّم، فإننا نسميه موضوعاً في الاصطلاح.
* وكلمة موضوع هل تعني أن العلماء وضعوه ولم يلقوا له بالاً، أم أن راويه وضعه على النبي صلى الله عليه وسلّم؟
نقول: هو في الحقيقة يشملهما جميعاً، فالعلماء وضعوه ولم يلقوا له أي بالٍ، وهو موضوع أي وضعه راويه على النبي صلى الله عليه وسلّم.
والأحاديث الموضوعة كثيرة ألَّف فيها العلماء تآليف منفردة، وتكلموا على بعضها على وجه الخصوص، ومما أُلف في هذا الباب كتاب (اللالىء المصنوعة في الأحاديث الموضوعة) ومنها (الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة) للشوكاني، ومنها (الموضوعات) لابن الجوزي، إلا أن ابن الجوزي - رحمه الله - يتساهل في إطلاق الوضع على الحديث، حتى إنهم ذكروا أنه ساق حديثاً رواه مسلم في صحيحه وقال إنه موضوع! ولهذا يُقال: (لا عبرة بوضع ابن الجوزي، ولا بتصحيح الحاكم، ولا بإجماع ابن المنذر) لأن هؤلاء يتساهلون، مع أن ابن المنذر تتبعته فوجدته أن له أشياء مما نقل فيه الإجماع ويقول: لا نعلم فيه خلافاً، وإذا قال ذلك فقد أبرأ ذمته أمام الله تعالى.
والأحاديث الموضوعة لها أسباب:
* منها التعصب لمذهب أو لطائفة، أو على مذهب أو على طائفة، مثل آل البيت؛ فإن الرافضة أكذب الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلّم، لأنهم لا يستطيعون أن يُروجوا مذهبهم إلا بالكذب، إذ أنَّ مذهبهم باطل، كما ذكر ذلك شيخ الإسلام - رحمه الله - عنهم.
وهناك أحاديث كثيرة رويت في ذم بني أمية، وأكثر من وضعها الرافضة، لأن بني أمية كان بينهم، وبين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - حروب وفتن.
والموضوع مردود، والتحدث به حرام، إلا من تحدّث به من أجل أن يبين أنه موضوع فإنه يجب عليه أن يبين ذلك لناس، ووضع الحديث على رسول الله صلى الله عليه وسلّم من كبائر الذنوب لقول النبي صلى الله عليه وسلّم: «من كذب علّي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار»، وثبت عنه أنه قال: «من حدَّث عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحدُ الكاذبين».
وإذا أردت أن تسوق حديثاً للناس، وتُبين لهم أنه موضوع ومكذوب على النبي صلى الله عليه وسلّم، فلابد أن تذكره بصيغة التمريض (قيل ويُروى ويُذكر) ونحو ذلك، لكي لا تنسبه إلى النبي صلى الله عليه وسلّم بصيغة الجزم، لأنه إن فعلت ذلك أوقعت السامع في الإيهام.
* ومن الأمور المهمة التي ينبغي أن ننبه عليها: ما يفعله الزمخشري في تفسيره من تصديره السورة التي يفسرها، أو ختمها بأحاديث ضعيفة جداً أو موضوعة، في فضل تلك السورة، ولكن الله يسر للحافظ ابن حجر رحمه الله فخرَّج أحاديث تفسير (الكشَّاف) للزمخشري وبين الصحيح من الضعيف من الموضوع.
ثم قال رحمه الله:
وقَدْ أتَتْ كالَجوهَر الَمكْنُونِ ** سَمَّيتُها منظُومة البَيقُونِي
قوله: (أتت) الضميُر يعود على هذه المنظومة.
وقوله (كالجوهر المكنون) أي مثل الجوهر، فالكاف للتشبيه.
و (أتت) فعل ماضي، وفاعله مستتر، و (كالجوهر) منصوبة على الحال، أي: أتت مثل الجوهر.
وقوله (المكنون) أي المحفوظ عن الشمس، وعن الرياح، والغبار فيكون دائماً نضراً مشرقاً.
وقوله (منظومة البيقوني) نسبها إليه، لأنه هو الذي نظمها.
ثم قال رحمه الله تعالى:
فوقَ الثلاثيَن بأربعٍ أتَتْ ** أبياتُها ثمَّ بخيٍر خُتِمتْ
قوله (فوق الثلاثين بأربعٍ أتت) أي أنها أتت أربعة وثلاثين بيتاً.
وقوله (أبياتها ثم بخير خُتمت) يعني أن أبيات هذه المنظومة جاءت فوق الثلاثين بأربع ثم خُتمت بخير.
وإلى هنا ينتهي - بفضل الله تعالى - هذا الشرح،
نسأل الله تعالى أن يتقبل منا صالح الأعمال،
وأن يغفر الزلل والخطأ إنه سميع مجيب.
والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك
على نبيناوإمامنا محمد بن عبدالله
وعلى آله وأصحابه وأتباعه
بإحسان إلى يوم الدين.
¥