والدنو هو القرب: من دنا يدنو؛أي أقرب إلي عدم الارتياب، [والارتياب شك مع تهمه،فإنك
تقول إني مرتاب في فلان،إذا شككت في أمره،واتهمته،والارتياب أمر قلبي،ومع ذلك استخدم معه لفظ "أدني "،وهو مخصوص بالقرب المكاني؛ لأنه:" لا يكون إلا في المسافة بين شيئين "] (154).
وفي ذلك إخراج للمعنوي، وهو الارتياب في صورة المحسوس؛ لأن هذا المعنوي يترك أثاره علي الحواس من غضب ونحو ذلك.
ويبقي السؤال:
هل بعد كل هذه الضوابط لا تنتفي الريبة انتفاءً كاملاً؛ فيقال "وأدني ألا ترتابوا "، ولا يقال وانفي للريبة؟
إن هذا يعطي معنيً مهماً, وهو أنه بالرغم من كل هذه الضمانات إلا أن نفس الإنسان تظل في قلق وتوجس من ضياع هذا المال؛ فهي بعد كل هذا تقترب من الضمان، لكنها لا تحصل علي الضمان التام
ولما كان قائل هذا الكلام هو خالق تلك النفس، كان لابد من فهم طبيعة هذه النفوس وعلاقاتها بالمال , فهي علاقة ذات خصوصية شديدة , بحيث لا تطمئن إلا بوجود المال في حوزتها , أما إذا كان في حوزة الغير فمهما أعطيت من ضمانات؛ فإنها لا تنفك عن الريب , وخوف الضياع.
حذف المفضل عليه:
حُذف المفضل عليه في الجمل الثلاث؛ إذ التقدير:
ذلكم أقسط عند الله من عدم الكتابة.
وأقوم للشهادة من عدم التحيّز في الشهود.
وأدنى إلى عدم الريبة من ترك كل هذا.
[وحسن حذف المفضل عليه لكون أفعل الذي للتفضيل وقع خبراً, وتقديره: الكتب أقسط , وأقوم , وأدنى من عدم الكتب] (155).
ووجه الحسن هنا هو اختزال التفضيل في تلك الألفاظ الثلاثة , حتى لا ينصرف الذهن إلا إليها , فيقبل على الأمر والنهي إقبال المحب الموقن بحكمة ما وضع من ضوابط ,وأنه في صالحه.
ترتيب الجمل الثلاث:
يقول أبو حيان [نسق هذه الأخبار في غاية الحسن؛ إذ بدئ بالأشرف , وهو قوله: " أقسط عند الله " أي في حكم الله ,فينبغي أن يتّبع ما أمر به , إذ اتباعه متعلّق الدين الإسلامي , وبني عليه قوله " وأقوم للشهادة " لأن ما بعد امتثال أمر الله هو الشهادة بعد الكتابة , وجاء بقوله " وأدنى ألا ترتابوا " أخيرا؛ لأن انتفاء الريبة مترتب على طاعة الله تعالى في الكتاب والإشهاد , فعنهما ينشأ أقربية انتفاء الريبة , إذ ذاك هو الغاية في أن لا يقع ريبة , وذاك لا يتحصل إلا بالكتب والإشهاد غالبا فيُثلج الصدر بما كتب وأشهد عليهً وما ضبط بالكتابة والإشهاد لا يكاد يقع فيه شك , ولا لبس , ولا نزاع] (156)
وهذا يؤكد أن الترتيب ترتيب تصاعدي , فبدأ بالالتزام بأمر الله تعالى , إذ هو الأساس الذي يبنى عليه , وانتهى بنفي الريبة , إذ هي العلة الملاحظة من وراء كل هذه الضوابط.
فهذه الضمانات وإن كانت أوامر ينبغي السمع لها والطاعة , تعبداً لله تعالى إلا أن من ورائها علة عظيمة , وهي سلامة المجتمع , والمحافظة على علاقاته وروابطه , وهذا ما أكدته جملة: " وأدنى ألا ترتابوا .. "
أسلوب الاستثناء في قوله تعالى:
(إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةَ تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ)
وهذه الجملة تبين أن التجارة الحاضرة بيوعها مستثناة من قيد الكتابة , وتكفي فيها شهادة الشهود؛ تيسيراً للعمليات التجارية التي يعرقلها التقييد , والتي تتم في سرعة , وتتكرر في أوقات قصيرة؛ ذلك أن الإسلام وهو يشرع للحياة , قد راعى كل ملابساتها , وكان شريعةً عملية واقعية ,لا تعقيد فيها ولا تعويق لجريان الحياة في مجراها. (157)
ولكني ألحظ هنا في هذه العبارة دلالة أخرى خافية , وهي: لفت أنظار المؤمنين إلى التيسيرات في غير الديون , فالآية تعرض العوائق الكثيرة في شأن الديون , وتضع في الإطار نفسه الأبواب الميسرة ,والطرق الممهدة , حتى تفر النفوس من عقبات الديون إلى تيسيرات البيع الناجز.
¥