وفي اعتقادي ان الصفات السلبيه التي يخلعها الاستاذ العالم علي ايقاع الشعر العربي كالبطء , والنمطيه , والجمود نوع من سوء الظن مصدره المبالغه في تقدير اثر البيئه او الواقع في الفن.
فالفن انعكاس للواقع كما يعتقد الواقعيون الاشتراكيون والواقع لا يقدم للفن موضوعه فحسب , بل اسلوبه وادواته التي تتطور بتاثير هذا الواقع ايضا. والواقع بالنسبه لموضوعنا هو الحياه الصحراويه ذات الايقاع البطيء الذي يغلب عليه الاطراد والنمطيه , والجمود النسبي , كما يقول العالم , فمن المنطقي ان يكون الايقاع المنعكس عنه ترجمه له وتعبيرا عنه.
ولاشك في ان هذه العيوب موجوده بدرجات مختلفه في جانب من الشعر العربي القديم , لكنها عيوب نظم او عيوب كتابه لا عيوب ايقاع. اعني انها عيوب قصائد او شعراء بالذات , فنحن لا نستطيع ان نصف الايقاع المجرد من المعني بالبطء او بالسرعه , بالحركه او بالجمود. والبحور التي نظم فيها امرو القيس , وطرفه بن العبد , وعمر بن ابي ربيعه , ومالك بن الريب , وابونواس , والمتنبي , والمعري , وشوقي , وبدوي الجبل , والجواهري قصائدهم الرائعه هي ذاتها البحور التي نظم فيها الادعياء سخافاتهم وركاكاتهم.
وما هو هذا الايقاع الذي ينسب اليه الاستاذ العالم هذه العيوب؟
هل هو بحر بالذات من بحور الشعر العربي؟ ام هو كل بحوره؟
ونحن نعرف ان الشعر العربي ينظم في سته عشر بحرا , فضلا عن مجزوءاتها , ومشطوراتها , الي اخر هذه التقسيمات المختلفه.
وقد اضاف الشعراء العرب والمستعربون بعد الاسلام ايقاعات واشكالا شعريه لم تكن موجوده من قبل , كالارجوزه , والموشح , والبند. ثم خرجوا في هذا العصر الذي نعيش فيه علي وحده البيت , واعتمدوا علي وحده التفعيله , وخرجوا علي وحده القافيه واستخدموا في القصيده الواحده وفي المسرحيه الشعريه ذات المستويات العاطفيه واللهجات الشعريه المختلفه بحورا متعدده. فهل يعتبر الاستاذ العالم هذه الايقاعات المختلفه كلها بطيئه جامده عاجزه عن تمثل روح العصر والتجاوب معها؟
الى ان الوزن الواحد او البحر الواحد ليس ايقاعا واحدا , وكل وزن قادر علي ان ينتج من الايقاعات بقدر ما يستطيع الشعراء ان يستخرجوا منه. فالبحر آلة موسيقيه تنطق بالروائع حين يمسك بها العازف العظيم ولو استخدم وترا واحدا او اثنين. ولكل شاعر شخصيته الفنيه , ولغته , وعالمه , وذوقه , وطريقته في استخدام البحور بما يدخل فيها من تنويعات خصبه يسمونها زحافات وعللا تجعل الايقاع في نهايه الامر بصمه شخصيه لا يمكن ان تتكرر (1). واذا كان بعض النقاد قد قال من قبل ان الاسلوب هو الرجل فبوسعنا ان نقول نحن ايضا ان الايقاع هو الرجل!
لكنني لا استطيع مع هذا ان احمل الاستاذ العالم علي ان يحب ايقاع الشعر العربي او يحسن ظنه فيه. لاننا لسنا مطالبين بان نكون في الشعر موضوعيين الا بقدر محدود جدا. وبوسع العالم اذن ان يري ايقاع الشعر العربي بالبطء والجمود ومجافاه روح العصر. لكن هناك شيئا لا يستطيع العالم ان ينكره بصرف النظر عن رايه فيه , وهو ان الايقاع موجود في القصيده المنظومه.
كما ان هناك شيئا بالمقابل لا يستطيع العالم ان يثبته وهو وجود الايقاع في قصيده النثر. يستطيع العالم ان يحب قصيده النثر ويدللها ويلاعبها ويحلم بمستقبلها , لكنه لا يستطيع ان يقول انها موزونه , لا لعيب في العالم لا سمح الله , ولكن لان قصيده النثر نثر لا وجود فيها للايقاع كما عرفته , وكما يعرفه المختصون في الشعر والموسيقي فيقولون انه الحركه المنتظمه المتواليه.
والاستاذ العالم متفق معي علي ان الانتظام شرط اساسي في الايقاع , اذن فهو متفق معي علي ما جاء في التعريف كله , لان الانتظام معناه اتفاق الاصوات , اي تساوي الوحدات التي تتالف منها (2). وتساوي الوحدات لا يظهر الا بتكرارها , فالايقاع اذن هو الحركه الموزونه , اي المنتظمه المتواليه , وهذا اول ما يجب ان نتفق حوله.
والاصوات اللغويه هي ماده الايقاع في الشعر. فالقراءه الصحيحه للنص اول شرط لادراك الايقاع وتمثله وامتلاكه والسيطره عليه.
¥