ـ[فيصل الكاملي]ــــــــ[15 Sep 2010, 06:47 ص]ـ
كنتُ أوردتُ في الجزء الأول من هذا المقال نصاً من العهد القديم للدلالة على ذكر اسم «محمد» - صلى الله عليه وسلم - صراحة في أسفار أهل الكتاب، لكنني اكتفيت هناك بإثبات التحريف في ترجمة النص من العبرانية وعَرضتُ لذلك بعض النماذج، وأهمُّ ما عُنيت به إثبات أن الفِقرة المقتبسة تُقرَأ وَفْقَ الترتيب الآتي مع مراعاة الفواصل:
ما تعسو ليوم موعِيد وليوم حج يهوه؟ كي هيني هالخو مشُّود: مِصرايم تِقبِّصِم، موف تِقَبِّرِم، مَحْمَد لِخَسْبَام، قِمُوش يِيراشِم، حُوَح بأُهُليهم. [هوشع 9: 5 - 7]
وبيَّنت أن هذه القراءة هي الوحيدة التي تحافظ على تَنَاظُر الجمل وجَرْسِها. لكنني في هذا الجزء سأركِّز الحديث على معنى النص ليرى القارئ كيف أن تلاعُب المترجمين حوَّل نصاً صريحاً في نبوة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - إلى جُملٍ شديدة الركاكة باهتة المعاني أشبه ما تكون بسجع الكهان.
تفسير النص:
أما قوله: (ما تَعسُو ليوم موعِيد وليوم حج يهوه؟) فليست له علاقة بالمواسم والأعياد، وهذا ظاهر من السياق؛ إنما هو تخويف وتذكير لبني إسرائيل الذين ابتعدوا عن منهج الله وعصوا رُسُله. فمَن ترجمهُ بقوله: «ماذا تصنعون في يوم الموسم وفي يوم عيد الرب؟» فقد أبعد النجعة وأحال الوعيد عيداً. فالنص العبراني يقول: (ل - يوم) ومعناها «لِيَومِ» وليس (ب - يوم) «في يوم». وعليه فالصحيح أن تترجَم هكذا: «ما أنتم عاملون ليوم الميعاد [1] ويوم يحشركم الرب؟» فكلمة «حَج» في العبرانية هي كل اجتماع حاشد، وإنما استُعيرت للعيد لاجتماع الناس فيه. ومعنى الجملة يُذكِّر بقول الله - تعالى - مخاطباً بني إسرائيل: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ} [البقرة: 321].
وأما قوله (كي هيني هالخو مِشُّود: مصرايم تقبصم، موف تقبرم) فتفسيره «فهاهم أولاء نجوا من البلاء: مصر تأسرهم ومنف [2] تقبرهم [أو تدفنهم]». وهو تذكير لبني إسرائيل بما تعرضوا له من ابتلاءٍ على يد فرعون وقومه، فالنص يشير إلى النجاة من البلاء، والاستعباد، والقتل؛ وهو معنى قريب جداً من قول الله - تعالى - في كتابه الكريم: {وَإذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ} [البقرة: 94].
لكن اضطهاد المصريين ليس كلَّ ما تُعدِّده الفِقرة من ابتلاء لبني إسرائيل، فهي تستمر قائلة: (مَحْمَد لخسبام)، وهنا بيت القصيد. فقد تُرجِمَت هذه العبارة بـ «نفائس فضتهم» وهو من التحريف الظاهر لأمرين رئيسين:
أولهما: أن إضافة «مَحْمَد» (بمعنى «نفيس») إلى «خسبام» (أي «فضتهم» أو «مالِهم») من الركاكة بمكان، لوقوع حرف الجر «ل» بينهما؛ حتى إن «فيلهِلم جِسنيوس» في كتابه «نحو اللغة العبرانية» Gesenius> Hebrew Grammar أورد احتمال أن تكون العبارة في أصلها (مَحمدي خَسْبام)، وهي صيغة الإضافةِ السَويةُ في العبرية.
وثانيهما: إن سلَّمنا جدلاً بصحة الإضافة في (مَحْمَد لخسبام) «نفيسُ فضتِهم [أو «مالِهم»]» فهي برغم ذلك ليست جملة مفيدة فهي تحوي مبتدأً يفتقر إلى خبر، أو خبراً لمبتدأ محذوف لا نعلمه، وهو ما اضطر المترجمين إلى أن يربطوها بـ (قيموش ييراشم) التي تليها، فقالوا: «يرث القريص نفائس فضتهم». وهي محاولة بائسة للهروب من المأزق، لكن الجملة لا تستقيم برغم ترقيعهم هذا؛ لأننا لو ترجمنا النص العبري حرفياً لصار «نفيسُ فضتهم القريصُ يرثهم»؛ بمعنى أن ضمير الجمع «هم» سيعود على المفرد «نفيس» وهو ما لا يستقيم في اللغة العبرانية، وإنما يقال: «نفيس فضتهم القريص يرثه»، ولو افترضنا أن الضمير يعود على «فضة» – وهو بعيد جداً – فالاعتراض قائمٌ؛ لأنها مفرد وليست جمعاً حتى في أصلها العبري (لـ - كسف - ـم). فدل ذلك على أنهما جملتان وليستا جملة واحدة.
فما معنى الجملة إذن؟ إن (مَحْمَد لخسبام) عبارة وجيزة مستأنَفة معناها الحرفي «مُحمَّدٌ لِمالِهم»، فـ «محمد» اسم عَلَم يشير إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وليس صفة بمعنى «نفيس»، يشهد لهذا أمران على الأقل:
¥