أركون: إن هذا النص معترف به اليوم بأنه نص تاريخي من قِبل كل الباحثين سواء أكانوا مسلمين أم مسيحيين أم يهوداً، أم من أي اتجاه آخر، وهم مستعدون للاعتراف بأن النص الذي ظهر في القرن السابع الميلادي هو نفسه الذي يوجد بين أيدينا اليوم في هذا القرن العشرين. ونحن كمسلمين، هل نستطيع أن نضع موضع الشك هذه الآية التي قرأها أحد الحاضرين منذ بضع دقائق؟».
ولأنه لم يجب بشكل مباشر وواضح فإن محاوره يعيد السؤال مرة أخرى بشكل أكثر وضوحاً فيقول: «سؤالي واضح: بما أن القرآن كلام الله، فهل من الصحيح أم لا أن إبراهيم قد زار مكة ... أود أن تجيبني بشكل قاطع لا لبس فيه ولا غموض: أي بنعم أو لا».
يعود أركون ليؤسس دفاعه عن عدم تحديد الجواب بناء على النظرية الفلسفية التي لا تؤمن بالمقابلة بين ثنائية الصواب والخطأ فيقول: «عجيب أمرك! إن إلحاحك على طلب الجواب بنعم أو لا، يدل على أنك لا تزال سجين الفكر الثنوي. كما ويدل على مدى صعوبة إحلال المنطق التعددي محل المنطق الثنوي الاستنباطي». [الإسلام، أوروبا، الغرب، محمد أركون (ص76)، الفكر الإسلامي قراءة علمية، محمد أركون (ص 57)].
هذا التراوح بين الوضوح والتردّد في فكر أركون ينبغي أن يفهم أولاً في سياق تطور المناخ الفكري الذي يعيشه أركون، فما كان يتردّد في الإفصاح به في زمن، لم يعد يتردّد في كثير منه في زمن لاحق، كما أن ما تردّد في قوله في مناسبة، فإنه أفصح عنه في مناسبة أخرى، والموقف من وثوقية نص القرآن هو أكبر شاهد على هذه القضية، فإن موقف أركون من ذلك موقف حاسم، فهو يتلخص في أن القرآن انتهى إلى قرآنين: قرآن «ضاع إلى الأبد ولا يمكن للمؤرخ الحديث أن يصل إليه أو يتعرف عليه مهما فعل ومهما أجرى من بحوث»؛ وعليه «من الصعب تحديد مضمون القرآن أو محتواه».
وسبب هذه الصعوبة أن «هذا الظرف العام لا يمكن التوصل إليه إطلاقاً؛ لأننا لا نملك شريط تسجيل أو فيلماً مصوراً يبين لنا الرسول وهو يتحدث إلى أصحابه أو يتلو عليهم لأول مرة. هذا الشيء مضى وانقضى ولا حيلة لنا به. ففي ذلك الوقت لم تكن هناك آلات تسجيل ولا كاميرات تصوير».
أما القرآن الثاني وهو ما يُطلق عليه اسم المصحف فهو: «هذا المجلد المادي الذي ألمسه وأمسكه بيدي، وأنقله من مكان إلى آخر، وأقرؤه وأفسره بعد أن أقوم بفرائض الوضوء والطهارة». [القرآن من التفسير الموروث إلى نقد الخطاب الديني، محمد أركون (ص 38 - 188)، الفكر الإسلامي، قراءة علمية، محمد أركون (ص90)].
وأخيراً ينبغي أن يفهم هذا التراوح في نص أركون بين الوضوح والتردّد في سياق النظرية الفلسفية التي يتبناها أركون في نظره وتقويمه للمفهوم الحقيقة، فعند أركون «لا توجد أصول دائمة وأبدية، وإنما هناك أصول متغيِّرة بتغير العصور لكي تتناسب مع المستجدات، وبالتالي فالتأسيس النهائي للحقيقة أو للعقل شيء مستحيل؛ لأن الحقيقة أصبحت نسبية، ولم تعد مطلقة وأبدية كما يتوهم الأصوليون من كل الأنواع والأجناس». [معارك من أجل الأنسنة، محمد أركون (ص 37، حاشية 2)].
ومن أجل ذلك فإن «الخطأ والكذب .. ضروريان للحياة أكثر من الحقيقة» بل إن البشر «لا يعيشون فقط على الحقيقة، بل يمكن القول بأن الخطأ أو الوهم أو الخيال ضروري للحياة مثل الحقيقة إن لم يكن أكثر». [الإسلام، أوروبا، الغرب، محمد أركون (ص27)].
وبذلك يمكن أن نفهم كلام هاشم صالح عندما أراد أن يبين مجالات اهتمام أركون في نظره حول القرآن فقال: «ليس مهماً في نهاية المطاف هل هذه النصوص صحيحة أم لا؟ موثوقة أم لا؟ تعود على صاحبها والفترة المنسوبة إليها أم لا؟ ... أصبح الشيء الأساسي في نظره هو التالي: كيف استطاعت هذه النصوص أن تشغل وعي الناس وتسيطر عليهم طيلة قرون وأجيال؟ ... ». [الفكر الإسلامي قراءة علمية، محمد أركون (هامش - ص 58)].
وأخيراً-فيما يتعلق بخصوصية النص الأركوني- فإن نص أركون يختلف تبعاً لاختلاف الجمهور الذي يُوجّه إليه، فهو يقول عن أحد كتبه: «إني في هذا الكتاب أتوجّه إلى الجمهور الأوروبي، ولو توجّهت إلى الجمهور الإسلامي لتغيرت لهجتي إلى حد كبير». [الإسلام، أوروبا، الغرب: رهانات المعنى وإرادات الهيمنة ص 179].
¥