تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وهذا الاختلاف قد يشكل ازدواجية ربما تؤثر في طبيعة فهم الخطاب وتحقيق مراداته، يشير إلى هذا المعنى جورج طرابيشي فيقول: «الازدواجية التي يصدر عنها أركون في قتاله على الجبهتين (=الأوروبية والعربية) تقابلها ازدواجية موازية في إستراتيجية الخطاب تبعاً للجمهور المخاطب ... ومن هنا شعور القارئ الذي هو مثلي بأن أركون يسدّد ضرباته في غير محلها، ويخدم تكتيكياً إستراتيجية هي غير إستراتيجيته». [من النهضة إلى الردة 142].

وبالرغم من كل تلك الخصوصية فإن أركون ليس عصياً على الفهم، ومن خلال تجربة لا بأس بها مع فكره فإني وجدت أن أكثر ما يمكن أن يختصر على القارئ الذي يريد أن يعرف خلاصة فكر أركون هو النظر في حواراته والتي تزخر بها كتبه.

فالحوارات التي تُجرى مع أركون يمكن أن تكشف عن كثير من الأبعاد الفكرية التي ربما تغيب أثناء كتابته البحثية المجردة؛ لأنها توصل القارئ غير المتخصص إلى النهايات التي يريد أن يصل إليها دونما حاجة إلى كثير من التعب والعناء.

ولأن العملية النقدية التي تُمارس مع النص الأركوني تقع تحت طائلة عدم الفهم فأركون نفسه يذكر أن بعض القضايا لم تُفهم عنه فيقول: «لم يحاول أحد أن يفهم جيداً ما أريد قوله». [قضايا في نقد العقل الديني (ص 186)].

فإنني سأقف مع واحد من أهم الحوارات التي تعرضت للمسألة الوجودية في فكر محمد أركون، ومن أكثرها وضوحاً وبياناً، وهو حوار أجراه معه هاشم صالح في كتابه الفكر الإسلامي نقد واجتهاد [ص 301 - 303].

وقد حرصت أن أختار هذا النص؛ لأنه بعيد عن التعقيدات الفلسفية التي كثيراً ما يرجع أركون عدم فهم قُرّائه لكلامه إليها؛ لأنهم لا يمتلكون تلك الأدوات الفلسفية التي تساعدهم على الفهم حيث يقول: «كل هذا الجهمور الطويل العريض من الطلاب لا يستطيع أن يستوعب كتاباً ككتابي عن نزعة الأنسنة في القرن الرابع، وإذا ما قرؤوه فسيلمون منه؛ لأنهم لا يمتلكون الأدوات المعرفية الضرورية من أجل فهمه واستيعابه». [قضايا نقد العقل الديني 302].

كما أنني حاولت أن أسير مع أركون إلى نهاية كلامه، وأن نستمع إلى شرحه وبيانه بكل هدوء، حتى نكون أقدر على فهمه الفهم الصحيح؛ لأن أركون يريد من قرائه أن ينتبهوا لما يبينه ويشرحه فيقول: «وهذا دليل على أن أصحابه لم يقرؤوا بإمعان ما كتبت، وإن قرؤوا فإنهم لم يدركوا ولم ينتبهوا إلى ما بيّنت وشرحت ... ». [الفكر الإسلامي واستحالة التأصيل لمحمد أركون (ص13)].

الحوار الذي سنتناوله بالتحليل قد تشعب بأركون وصالح إلى أن وصل إلى التساؤل حول الغاية والهدف الذي يمكن أن يحتل موقع الصدارة في تفكير الإنسان، وهو سؤال وجودي كبير يشكل محوراً أساسياً في تفكير الإنسان في جميع الثقافات والمجتمعات على اختلاف مرجعياتها الدينية.

وأدعو القارئ أن يحدد معي أين تقع منطقة الغموض ومنطقة الوضوح في هذا الحوار ... هل هي في تساؤلات صالح أم في أجوبة أركون؟

لنبدأ من سؤال صالح حول هذه القضية الوجودية الكبيرة:

«صالح: البعض في المجتمعات الأوروبية الحديثة يقول إن الفن والموسيقا والمسرح والسينما والغناء والرياضة والرقص والحب وكل الفعاليات الجميلة، يمكن أن تحلّ محل الخطاب الديني أو تعوض عن الحاجة الدينية الموجودة في نفس كل إنسان ... ».

هذا هو سؤال صالح، ويبدو أنه سؤال يمتلك قدراً كبيراً من المباشرة والوضوح.

فبماذا أجاب أركون عن هذا السؤال؟

يجيب أركون بجواب حاسم ينفي فيه أن تحل هذه الفعاليات محل الخطاب الديني فيقول:

«لا، لا يمكن أن تحل. هذه فعاليات تفيدنا في تمضية الوقت وترفيه أنفسنا دون أن نسيطر على هذا الوقت أو ذاك الزمن.

بمعنى أننا لا نستبصر غائية كل هذه الفعاليات، وفيما إذا كانت هناك من غائية تكمن وراءها».

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير