حسناً .. أخي القارئ ضع في ذهنك الآن ما يقوله أركون من أن: القرآن بعضه مفقود في خزائن الرافضة في الهند واليمن، وأن علماء الإسلام تلاعبوا بالقراءات القرآنية، وأن الصحابة لم يكونوا أمناء في تدوين القرآن، وأن النبي أدخل في القرآن الأساطير، وقصص التوراة بعد أن شوهها، وأن القرآن فيه مغالطات تاريخية، وأن القرآن قسا على المشركين دون مبرر، وأن القرآن هو الذي ينتج التطرف، والعنف، ومضادة العقل، وأن أسلوب القرآن فيه قصور وتكرار زائد وتشنج، وأنه لا يوجد أدلة على صحة نسبة القرآن إلى الله.
ضع ما سبق كله في ذهنك، ثم استحضر كيف عرضت الصحافة السعودية أركون بأنه المجدد الأكبر للإسلام، وأحد المجاهدين لمكافحة الظلام وإحلال النور في عالمنا العربي، وأنه مشعل حقيقي، وأنه أحد حكماء الاسلام الكبار، وأحد الهامات الفكرية، والمدافع عن القيم النبيلة.
أعرف أخي الكريم أن جوفك يتقاطر مرارةً الآن، وحُق لك ذلك والله، فليس سهلاً أن ترى صحافة بلاد الحرمين وجزيرة الإسلام ومنطلق دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب تبجل وتلمع وتكرم من يهين كتاب الله جل وعلا.
أعرف أنك –يا أخي الكريم- تتساءل الآن كما تساءلتُ مثلك: إلى أين يريد أن يذهب بنا هذا الإعلام التغريبي ياترى؟ حتى كتاب الله لم يعد له كرامة؟
على أية حال .. الشواهد والمعطيات حول موقف أركون من القرآن كثيرة، وكثيرة جداً، بسب أن أساس ما يسمى مشروع أركون إنما يدور حول القرآن، بمعنى آخر فإن ما يسمى مشروع أركون يرتكز كله حول هدف ووسيلة، فأما (الهدف) فهو: تحرير المسلمين من القرآن ليستطيعوا أن يصلوا إلى الحداثة، وأما (الوسيلة) لتحقيق هذا الهدف فهي: تطبيق العلوم الإنسانية على القرآن، لنحقق ماحققه الغرب في تجاوز الكتاب المقدس. هذا باختصار مكثف كل ماتدور حوله كتابات أركون.
ولكن برغم كثرة كلامه حول القرآن إلا أننا يجب فعلاً أن نتوقف عن عرض المزيد من الشواهد، فأظن القارئ المسلم المعظم لله وكتابه لم يعد يطيق أكثر من ذلك، وإنني أشعر أن لهيب الغيرة لله وكتابه قد بلغت غايتها في قلب القارئ الآن، لذلك من الأفضل أن ننتقل لسؤال آخر:
ما هو تفسير تشكُّل تصورات وعقيدة أركون بهذه الصورة شديدة الحدة تجاه القرآن ذاته؟ لماذا أعلن أركون الحرب على القرآن منذ أكثر من نصف قرن؟ هذا سؤال يحتاج فعلاً إلى إجابة، وفي تقديري الشخصي أن هناك ثلاثة عوامل صاغت، أو وجّهت على الأقل، بوصلة اعتقادات أركون إلى هذا الاتجاه، وهي: (الطفولة الكنسية، والتشرب الاستشراقي، والعقدة العرقية) وسنحاول إلقاء الضوء على هذه العوامل الثلاث في المحاور القادمة.
-مفعول الطفولة الكنسية:
في عام 1868 م أنشأ الكاردينال الكاثوليكي “لافيجري” جمعية علنية في الجزائر عُرِفت باسم الآباء البيض ( White Fathers) ، وسبب تسميتهم بهذا الإسم أنهم قرروا أن يلبسوا أردية بيضاء بهدف التناغم مع البيئة الاجتماعية، فأُطلِق عليهم هذا الاسم، ولهم صور فوتوغرافية مبكرة نشروها في كتبهم التي كتبوها عن هذه الحركة يظهرون فيها بهذه الأردية البيضاء.
وقد كتب عن هذه الجمعية بغزارة كلا الطرفين، أعني مؤرخي الجزائر ومؤرخي الكنيسة على حد سواء، وممن كتب عنها مؤرخ الجزائر الأشهر ابوالقاسم سعد الله صاحب الموسوعات في تاريخ الجزائر (تاريخ الجزائر الثقافي عشر مجلدات، أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر خمس مجلدات، وغيرها)، وكُتِب عن تاريخ لافيجري منشئ الجمعية كتب خاصة مثل دراسة الأستاذ سعيدي مزيان، وهي رسالة ماجستير بعنوان (النشاط التنصيري للكاردينال لافيجري في الجزائر).
وكان الآباء البيض –كما جاء في تاريخهم- يستهدفون مناطق البربر (منطقة القبائل) بعناية أكثر، وفي مدينة وهران (شمال غرب الجزائر) أنشأ الآباء البيض مدارس لتحقيق أغراضهم ضمن أنشطة أخرى.
والحقيقة أن الكتابات عن نشأة أركون وطفولته محدودة، ولكن الباحثة د. أورسولا قامت بإعداد رسالتها للدكتوراة عن أركون في جامعة هامبورج في ألمانيا، ثم طرحت خلاصة لهذه الدراسة باللغة الانجليزية ضمن كتاب يرصد النشاط العلماني في الأوساط السنية، بعنوان:
( Modern Muslim intellectuals and the Quran ).
¥